رئيس التحرير
عصام كامل

لو لم يُقتلْ "فرج فودة"!


في ذكراهُ السنوية.. يتمسَّحُ بعضُ الصغار ومرتزقة العلمانية ومُدَّعو التنوير ومُتسكِّعو المقاهي بـ "فرج فودة"، ويقيمون له مأتمًا وبكائية، ولو قام الرجل من قبره لأنكرهم جميعًا وتنصَّلَ منهم ومن تدليسهم، فهم لا يشبهونه، وهو لا يشبهُهم!


لم يكن "فرج فودة"، الذي قتله متطرفان قبل 27 عامًا، طعَّانًا أو لعَّانًا أو فاحشًا أو بذيئًا، ولكنه كان صاحبَ مشروع فكرى كبير، وإنْ اختلفنا معه، ووجهة نظره مُقدَّرة، وإن لم تجدْ صدىً عند الأكثرية. أمَّا أشياعُه من بقايا العلمانيين وأدعياء الثقافة، فلا بضاعة لهم إلا الطعن واللعن والفحش والبذاءة والمجاهرة بالسوء، والنقل عمن سبقوهم. هم يعتبرون الاختلاف في حد ذاته تميزًا وتفردًا، حتى وإن تجسَّد في السير عكس الاتجاه، أو اقتراف فعل فاضح في الطريق العام!

نعم.. سبق "فرج فودة" عصرَه في إعلان الحرب على الإسلاميين والتحذير من شرورهم، والكشف عن أطماعهم وخبايا نفوسهم الأمّارة بالسوء، والتأكيد على أنَّ إثمهم أكبر من نفعهم، فقد أثبتَ الماضى والحاضر ذلك، وكانتْ مواقفه واضحة وصريحة وشجاعة، ولم يطأطئ رأسه أمام جبروتهم، ما كلفه الموت رميًا بالرصاص ولم يكن أتمَّ عامه الخمسين، وكان في عنفوان عطائه ونشاطه..

ولكن، ماذا لو لم يتم قتل "فودة"، وتُرك مثل غيره من أصحاب وجهات النظر المعارضة والآراء المختلفة؟ الإجابة باختصار: لا شيء، وكان سوف يعيش إلى ما قدر اللهُ له، ثم يغدو نسيًا منسيًا، فهل يذكر أحدٌ "سيد القمنى" مثلًا، رغم أنه لا يزال على قيد الحياة، وهل أحد يتذكر أحدٌ "سعيد العشماوي" منذ رحيله؟!

إنَّ عملية تصفية "فرج فودة" صنعتْ منه بطلًا وشهيدًا، دون النظر إلى مُجمل مشروعه الفكرى ونقده، وتبيان ما إذا كان مشروعًا فكريًا متكاملًا، أم منقوصاَ مشوشًا، اكتسب أهميته في زمنه من فكرة الاختلاف مع السائد، والتمرد على السلطة الدينية فقط التي لم تكن قد فقدت وقارها الافتراضي بعدُ.

إنَّ المحاولات الرصينة التي أخضعتْ مؤلفات "فرج فودة" للنقد والتحليل، وجميعُها كانت من جانب كتاب ومثقفين موضوعيين ومحايدين، لم تُنصفها، وأجمعتْ على أن كثيرًا منها لم يكن ناضجًا بشكل كافٍ، وبعضُها، مثل: "حوار حول العلمانية"، ابتعد عن الأسس المعيارية والفلسفية التي عادة ما يستند عليها منظرو العلمانية في أطروحاتهم، وسيطر عليها ما يمكن وصفه بـ "غياب المنهجية الفكرية السليمة".

وإجمالًا، ورغم كل شيء، فإنه يمكن التسليمُ بأنَّ "فودة" ينتمي إلى الجيل الثاني من "التنويريين المصريين"، حيث سبقه جيل: "الطهطاوي" و"طه حسين" و"قاسم أمين" و"علي عبد الرازق" وآخرين، وكلا الفريقين آمن "بدرجاتٍ متفاوتة" بأنَّ الدين مُكوِّن أساسي في الشخصية المصرية، وأنَّ التنوير يجب أن يقوم على معالجة العلاقة بين الإسلام والحداثة.

أما مشروعُ "فودة" الشخصي فإنه كان يقوم على أربعة أعمدة أساسية، هي: نقد الإسلام السياسي المعاصر، ونقد الإسلام السياسي التاريخي، وحتمية الاجتهاد وإعمال العقل، والدفاع عن أسس الدولة المدنية الحديثة..

وربما كان الرجل مُخلصًا لأفكاره وقضيته، حتى وإن لم يكن مُوفقًا في العرض والطرح، ولكنَّ الحقيقة التي لا تقبلُ جدلًا، هي أنه لو لم يُقتلْ "فرج فودة" لطوته يدُ النسيان، وانتهتْ سيرته، مثل أسلافه وأقرانه، الأحياءُ منهم والأمواتُ، ولما تحولتْ ذكرى وفاته كل عام إلى مناسبة للتلسين والردح وفُحش الكلام.
الجريدة الرسمية