معاني الضرب في القرآن
لا يمكن لأي مبتدئ أن يشرع في تفسير القرآن، ويخرج بآراء شاذة نتيجة الجهل بأصول اللغة، والظاهر والباطن وأسباب النزول والسياق في النص القرآني، خاصة وأن القرآن يفسر نفسه في إطار الفهم الكلي وكل علم من أصول الفقه والتفسير له عدة فروع، وبعد ذلك يخرج علينا البعض بتفسير بعض الآيات وفقا لقراءته السطحية..
والخلاصة أن الألفاظ اللغوية لها عدة معان، ولا يحدد أحد معانيها إلا سياقها الواردة فيه، فإن لم ينظر في السياق نظرة كلية، وبناء عليه يتم تحديد المراد من اللفظ؛ فإن الخلل سيتطرق إلى تفسير تلك اللفظة؛ وبالتالي الوقوع في الإغراب في التأويل الذي يعد فسادا منهجيا.
والذي يعنينا من هذه الظاهرة القرآنية اللغوية هنا، أن نبين أنه وردت في القرآن الكريم ألفاظ، اختلفت معانيها وفق السياقات والسباقات التي وردت فيها، فقد يسبق للذهن منها عند الوهلة الأولى غير ما هو مراد منها، ولكن إذا أمعنا النظر في ذلك اللفظ على ضوء السياق والسباق الذي جاء به، استطعنا أن نفهمه.
ومن ذلك الصلاة تأتى على أوجه:
الصلوات الخمس: "يقيمون الصلاة"، وصلاة العصر: "يحبسونهما من بعد الصلاة"، وصلاة الجمعة: "إذا نودى للصلاة"، والجنازة: "ولا تصل على أحد منهم"، والدعاء: "وصل عليهم"، والدين: "أصلواتك تأمرك"، والقراءة: "ولا تجهر بصلاتك"، والرحمة والاستغفار: "إن الله وملائكته يصلون على النبى"، ومواضع الصلاة: "بيع وصلوات"، ومساجد: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".
فتلك عشرة وجوه لتعبير واحد ومن ذلك الروح ورد على أوجه: الأمر: "وروح منه"، الوحى: "ينزل الملائكة بالروح"، هنا الروح سيد الملائكة ينزلها بوحيه.
والقرآن: "أوحينا إليك روحًا من أمرنا"، هنا روح من عالم الأمر أي ملاك مخلوق.
والرحمة: "وأيدهم بروح منه" (هنا كناية عن الملائكة الحفظة).
والحياة: "فروح وريحان".
وجبريل: "فأرسلنا إليها روحنا"، "نزل به الروح الأمين".
وملاك عظيم: "يوم يقوم الروح".
وجيش من الملائكة: "تنزل الملائكة والروح فيها" (هنا كناية عن الروح سيد الملائكة).
وروح البدن: "ويسألونك عن الروح". هنا سها الإمام، ليس روح البدن، فتلك تسعة أوجه في لفظ واحد.
ثم إن تبايُن التفاسير لا يقدح في ثبات النص وقدسيته، إنما يعني اختلاف العقول المنتجة لها، ولا يُلام المفسرون إن أخطأوا، فقد كان عليهم الاجتهاد فاجتهدوا، ولكن ليس علينا التسليم بما انتهوا إليه، ولا يمكن اقتناص معاني النص ما لم تبحث عنها، فهي هي كالكنز المدفون عليك أن تنبش الأرض كي تحصل عليه، وعليه جاء في القرآن الكريم ما فهمه البعض بأنه حض على ضرب المرأة: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا).
ولما كانت معاني ألفاظ القرآن تُستخلص من القرآن نفسه، فبتتبع معاني كلمة (ضرب) في المصحف وفي صحيح لغة العرب، نرى أنها تعني في غالبها المرافقة، والمباعدة، والانفصال والتجاهل، خلافا للمعنى المتداول الآن لكلمة (ضرب)، فمثلا الضرب على الوجه يستخدم له لفظ (لطم)، والضرب على القفا (صفع) والضرب بقبضة اليد (وكز)، والضرب بالقدم (ركل)..
وفي المعاجم: ضرب الدهر بين القوم أي فرّق وباعد، وضرب عليه الحصار أي عزله عن محيطه، وضرب عنقه أي فصلها عن جسده، فالضرب إذن يفيد المباعدة والانفصال والتجاهل، والعرب تعرف أن زيادة (الألف) على بعض الأفعال تؤدي إلى تضاد المعني: نحو (ترِب) إذا افتقر و(أترب) إذا استغنى، ومثل ذلك (أضرب) في المكان أي أقام ولم يبرح (عكس المباعدة والسياحة في الأرض)..
اسمع معي: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) أي افرق لهم بين الماء طريقا، وقوله تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَيكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ )، أي باعد بين جانبي الماء، والله يقول: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ) أي مباعدة وسفر..
وقوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) وقوله تعالى: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ)، أي فصل بينهم بسور، وضرب به عُرض الحائط أي أهمله وأعرض عنه احتقارا، وذلك المعنى الأخير هو المقصود في الآية المظنون أنها حض على ضرب الزوجة: (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) والآية تحض على الهجر في المضجع والاعتزال في الفراش، أي لا يجمع بين الزوجين فراش واحد، وإن لم يجدِ ذلك فهو (الضرب) بمعنى المباعدة، والهجران، والتجاهل.