المقهى الأقدم في التوفيقية.. حكايات دراويش الست مع «قهوة أم كلثوم» (فيديو وصور)
في الجهة اليسرى لنهاية شارع التوفيقية بمنطقة رمسيس في القاهرة، يطل على المار صوتها وهي تشدو بإحدى أغنياتها العاطفية وبين كل مقطع وآخر يلقي عليها أحد دراويشها عبارته المعتادة "الله يا ست".
مساحة ضيقة ومجموعة لا بأس بها من المقاعد الخشبية والمناضد المعدنية، وبعض الصور كبيرة الحجم، لكوكب الشرق أم كلثوم في أعمارها المختلفة ما بين فترتي الخمسينيات والستينيات، فضلا عن لوح رخام ضخم يتوسط مدخل المقهى ممهور بعبارة "مقهى أم كلثوم تأسست عام 1936".
تلك الإمارات جميعها قد لا تكلفك عناء البحث عن ماهية تلك المقهى أو حتى عن اسمها الذي يحمله هذا اللوح الرخامي، فكل سنتيمتر مربع يحمل بين طياته بقايا حب وشغف بالست وكل ما يتعلق بها، حتى تتحول مقهى أم كلثوم أول مقاهي حي التوفيقية أيقونة ورمز لحب خالد توارثته أجيال متعاقبة وحَكايا حفظتها صدور أبناء الجيل الأول بالمقهى عن ظهر قلب.
فصول الحكايا طُبعت في رأس السبعيني على محمد على، مدير المقهى، الجالس أمام مكتب الإدارة والمسئول عن جمع النقود، ابتسامة مثبتة على وجهه، لسان متهيأ طوال الوقت للإفصاح عن تاريخ حافل بالأحداث سطرته جدران هذه المساحة متوسطة الحجم ذات الطوابق الثلاثة، "أنا جيت اشتغلت في القهوة دي سنة 1966 كان عمري 15 سنة، صبي جاي من إحدى قرى محافظة سوهاج، بيبحث عن لقمة عيش بعد أن فشلت في إتمام تعليمي الأزهري، الحاج مصطفى صاحب المقهى شافني صدفة وأنا شغال في أحد المحال القريبة من المقهى وقال لي من اليوم ده هتكون صبي عندي في القهوة".
منذ تلك اللحظة لم يفارق «على» هذا المكان، شهد نجاحاته وإخفاقاته، واستطاعت ذاكرته أن تحتفظ بما تيسر لها من هذه الإخفاقات أو تلك النجاحات، "يمكن عدت أكثر من 60 عاما إلا إني لسه فاكر أيام عز القهوة دي يوم ما كان اسمها مقترنا باسم الست ومحقق نجاح على حِسها".
يعود على للوراء ليتسند على كرسيه القطني، يسترجع الفصل الأول من تاريخ تلك المقهى، والذي قصه عليه الحاج مصطفى عبد الحي صاحب المقهى في وقت سابق، فبالعودة إلى عام 1936 كانت البداية مع "خمارة صغيرة" تعود لمالك يوناني عاش في مصر منذ فترة لا بأس بها، تسمى "قهوة وبار التوفيقية"، تقدم المشروبات الروحية فضلا عن النارجيلة "الشيشة" وغيرها من الخدمات التي تختص بها تلك النوعية من المقاهي، كانت خمارة الأول رخصتها كانت قهوة وبار، وسنة 1952 باعها الخواجة قبل خروجه من مصر بعد الثورة للحاج مصطفى كانت أقدم وأول قهوة في الحي كله اللي أصبح بعدها الشهير بالمقاهي والكافيهات، لأنه كان شارع السينمائيين والفنانين وشركات إنتاج الأفلام حتى مكتب الأستاذ محمد عبد الوهاب كان هنا في عمارة 24"، لم ينتظر الحاج مصطفى إلا أيام قليلة وهدم البار وحولها إلى مقهى فقط، وبذلك اتخذت رخصتها الحديثة على هذا الأساس.
وبسؤاله عن سبب تسميتها بمقهى أم كلثوم تنفرج أساريره شيئا فشيء، يتذكر الحب والشديد الذي ملأ صدر الحاج مصطفى للست، لم يترك لها صورة إلإ واشتراها، اشترى جهاز صوتي كبير وضعه في مدخل المقهى، خصيصا لتذيع أغنيات الست ويستطيع شارع التوفيقية كله أن يستمع إليها، "كانت وقتها أم كلثوم حالة مفيش كبير ولا صغير مبيرحش معاها رحلة لعالم خاص به، إحنا كنا بنجمعهم يستمتعوا بصوتها هنا، لدرجة إنه وصل خبر للشركات الصوتية المنتجة لأغنيات الست إنه إحنا بنسرق الحفلات على إسطوانات ونذيعها ورفعت علينا قضية"، إلا أن الحظ حالفهم حينها ففي خضم الصراع بين صاحب مقهى أم كلثوم والشركة المنتجة لأغنيات أم كلثوم، وتحديدا عام 1967، حينما تمت إذاعة حفل أغنية "فات الميعاد" للمرة الأولى، وقف القدر في صف المقهى وصاحبها ودراويش الست!
"كانت الثلاثة أدوار تكاد تنطبق على بعضها من كثرة أعداد محبي أم كلثوم في مقهى ام كلثوم"، يحاول عم على أن يقلد صوت المذيع الراحل جلال معوض وهو يقول كلماته هذه مشيدا بدور مقهى أم كلثوم في جمع شمل محبيها في طوابق ثلاثة، "الموضوع وصل لأم كلثوم وجت شافت المنظر بنفسها بعد الحفل بأيام قليلة، أمرت شركة الإنتاج بالتنازل عن القضية، وقالت أنا مش هاخد فلوس من حد ومضحيش بساعدة الشعب المصري علشان فلوس، كان عندي وقتها 16 سنة لكن كأن كل ده حصل قدامي الآن، ومن وقتها قررت كل حفلة تدي بخط إيديها أسطوانة للحفلة وتكتب عليها إهداء من أم كلثوم إلى مقهى أم كلثوم، وكان سائقها رجل أسمر يأتي في سيارتها ويعطينا الإسطوانة ويمشي، الوقت ده عمره ما هيرجع تاني أبدا، الأسطوانات للأسف عُبث بها".
تنتهي أغنية للسيدة أم كلثوم فيشرع أحد الشباب العامل بالمقهى في تغيير الأجواء بأغنية حديثة، بناء على طلب بعض الزبائن من الشباب رواد المقهى، والتي ما زال عدد إذا قورن بالكبار والذين تخطت أعمارهم الـ 70 عاما، قليل جدا، "القهوة دي فيها زبائن شباب لكن لسه زباينها من أيام ما تم افتتاحها محافظين على حضورهم هنا، بيحضر لواءات متقاعدين ومثقفين على رأسهم الأستاذ وحيد حامد وأطباء وصحفيين من عمر القهوة دي لسه بيباركوها بزيارتها من يوم للثاني".
رغم الحداثة التي طرأت على الكثير من معالم المقهى إلا أن القديم منها ما زال يقبض على عليه بقوة، يأمرهم بتنظيف صور السيدة أم كلثوم واللوحات الزيتية المرسومة لها، والمقتنيات الخاصة بها من وقت لآخر، "دلوقتي الزمن اتغير والدنيا اتغيرت مبقاش حاجة لها طعم حتى أغنيات الست بعد ما كنا بنشغلها على أسطوانات حجرية أو بعدها الإسطوانات بالقرص، بقت على فلاشات أو راديوهات والحفلة مش كاملة".