رئيس التحرير
عصام كامل

الصندوق الأسود


في ركن صغير مظلم في تجويف مصمت تنساب مشاعر متوهجة تتفجر شرايين الحب داخلها.. تنزوي تلك الأحاسيس وتلملم نفسها في وضع القرفصاء وتصبح مدفونة في مكان سحيق بلا قرار. لا يتطلع عليها أحد!


تلمح نفسها هجوما بصريا وكلمات رقراقة من أناس آخرين.. فمنهم من أحبها بعقله ومنهم من فاض حبه بين يديها.. لم تتمالك قلبها عندما لمست كلمات حبه، أذنيها تدغدغها، فتنحني طربا من العشق ومحاولات الانقضاض. لا تنكر عليه أنه فارسها، ولجامها يمسكه باتزان وهي تهمس في أذنيه كل يوم أنها تحبه.

تقاوم ساعات سقوط نفسها بين أنياب المتاهة.. ودوائر التفكير، تدفع كل هواجسها للانهيار والاستسلام للفشل مرة أخرى. قررت السفر برفقته إلى بلاد لا تعرف إلا اسمها، لا تدرى أي لغة يتحدثون ولا إلى أي قارة ينتمون، فأملها أن تكون له وحده بكل مشاعرها.. جعلته يسيطر على الموقف برمته.

لا تقول إلا كلمة واحدة (حاضر) كأنما التصقت بلسانها وأصبحت من قطع اللحم والدم فيها. رغم أن كل الرجال يعشقون المرأة التي تقول: (حاضر) لكنه لم يحبها إلا انبهارا بتمردها على كل شيء، حتى نفسها وشغفا لجدالها الذي يرتفع فيه صوت العقل على صوت الكلمات، هكذا أحبها وتزوجها مختلفة.. في ملامحها شقاوة الأطفال وفي عقلها رجاحة الشيوخ..

كان حديثا مطولا بين قلبين جمعهما حب من نوع خاص اعترف بغرامه الحالم لحد الذوبان.. قاطعته عيناها المتيمتان بملامحه الطيبة، دعاها أن تكون نفسها ألا تتحول إلى صورة مكررة من كل النساء. فجاءته إجابتها زلزلت جدران نفسه، (أحببتك كما لم أحب من قبل)، تسللت روحك المسالمة إلى روحي المشاغبة فسيطرت وتربعت..

أنت بالنسبة لى كل الرجال بخيرهم وشرهم، وأنا بالنسبة لك كل النساء في حسنهن وخبثهن، لن تنجو من غصة في الحلق ولا نشوة في اللقاء، فالحياة مزيج قاسٍ من عسل مر، وعلقم حلو..

اثنتا وعشرون عاما قضيتهم في حضرتها، لا يفرق بيننا خلاف ولا مشكلة نستقبل الإحباطات بصدر رحب، ونكسر في داخلنا قسوة الزمن.. لم نحتج أن يتوج حبنا أطفال تربط بيننا كما هو متعارف عليه. فجرعات الحب التي سكبتها قلوبنا تزيد وتفيض على أي رباط خارجي يتحكم في قلبينا.

لم ننشغل بمن منا قد خلق عقيما، فقدرنا الوحيد أن نجتمع في قلب واحد محب في مواجهه منغصاتنا اليومية التي لا تأخد منا بقدر ما تمدنا بطاقة تدمر كل أفكار البشر السوداء.

كم كنت أحلم كأي امراة بأن أصبح أما.. لكنني شعرت بالرعب لو قرر حبيبى أن نزور الطبيب، لن أحتمل أن يوضع أحدنا في الاختيار فمجرد التفكير في الأمر يعني أنه يمثل أزمة كبيرة في حياتنا..

ومرت السنون كالبرق لم أشعر إلا بحلاوتها، وتمنيت أن يكون هو آخر ما أغمض عيني عليه.. حتى جاءت لحظة الفراق، فقد أصيبت حبيبتي ورفيقة عمري بمرض من أمراض الدنيا، فانتظرنا سويا نهاية جسدها، فستظل روحها سابحة حولي إلى أن يجمعنا لقاء أخير..

كانت نظراتها لي تسعد قلبي رغم كل الألم والوجع، فعينيها الشيء الوحيد المتبقي من شقاوتها وحلاوة طلتها تداعبني بهم، بعد أن فقدت كل قدراتها الجسدية على الحركة.. أسمع في عينيها كلمة أحبك.. أعشقك.

فأمسك يدها التي لا تتحرك فأقبلها ودموعي تنساب دون إرادتي، فقد وعدتها أن يكون وداعنا كلقائنا كله ابتسام وضحك.. أزحت تلك الدمعات بطرف إصبعى خلسة واستجمعت طاقتي على السعادة، وقبلت يديها ووجهها وشفتيها وخديها ورأسها وظللت أقبل كل جزء من جسدها حتى أصابع قدميها.

تعلو وجهها ابتسامة واحدة لا تتغير.

تاهت عيناها وأحسست أنها في دنيا أخرى تسبح بأفكارها وتتذكر فتوقفت.. تركت يديها فشكرتنى بعينيها.. الآن يا حبيبى شريط حياتى ينفرط أمامي بكل زلاته وجموحه.. بكل انتصاراته وشموخه وتبقى في داخل القلب نقطة بعيدة لانراها بالعين المجردة تنكمش وتنكمش حتى تصبح بلا ملامح لكنها مازالت تتنفس الحياة.. وتموت بعد الجسد.. نتذكرها في أوقات الخلوة نطردها في أحيان كثيرة، لكنها تعود وتبقى، لا يحاسبنا عليها الله، لكنه يعرفها، ولا يفضحنا.


الجريدة الرسمية