رئيس التحرير
عصام كامل

صوفية مصر.. دراويش على باب الله.. شعارهم المحبة ويرفضون الصدام ويتعايشون مع كل الظروف.. «ذو النون» المؤسس للمدرسة المصرية.. والإخوان استعانوا بالسلفيين لمهاجمتهم بعد ثورة 25 يناير


حتى سنوات قليلة، كان يطيب للإخوان خلال توليهم رئاسة مصر، وهي أكبر دولة عربية، اعتبار الصوفيين جماعة طائفية، منفصلة عن صحيح الإسلام بطريقة أو بأخرى، شجعت الإخوان حلفاءها من السلفيين في الإجهاز على الصوفية، وتركت لهم الحبل على الغارب، وكأنها خائنة للعقيدة الإسلامية، مع أنه لم يعرف عنها يوما التورط في سفك دماء، أو التعرض بسوء لعقائد الناس، ويحاول الإسلاميون، حتى بعد عزلهم عن السلطة، محو تاريخ الصوفية في مصر، التي استمرت لعدة قرون كانت تحتل فيها مكانة رئيسية، في الحياة الفكرية الإسلامية، وفي المجال الشعبي، وهو ما يقلق تيارات الإسلام السياسي، التي تعرف جيدا معنى حب المصريين لظهير ديني، يلهمهم الجمال والتغيير من الداخل.


حملات التشويه
تراجعت الصوفية كثيرا خلال العقود الماضية، سواء بسبب حملات التشويه أو من داخلها، ورغم ذلك لم تنته في الوعي المصري، الذي تعمقت فيه، فكريا وفلسفيا وميدانيا، منذ ظهورها في القرنين الثالث والرابع الهجري، وانتشارها بكثافة شديدة، لدرجة أنها تغطي مساحة مصر الجغرافية بالكامل، ومن الصعب تصور قرية أو مركز في الأقاليم، أو حتى المدن، يخلو من وجود أتباع ومريدين لإحدى الطرق، وربما هذا هو السبب في التشابه الشديد بين الطرق الصوفية في مصر، لدرجة تصعب على الصوفي العادي، معرفة الفوارق بين كل طريقة وآخرى.

77 طريقة
وتعترف الدولة المصرية بـ77 طريقة صوفية، تتفرع أغلبها عن 4 طرق صوفية كبرى، توطنت في البلاد منذ القرن الرابع الهجري، وقبله كان المصريون يشتهرون بالزهد، وهو المادة الخام للتصوف، وكان من أهم علامات القرنين الأول والثاني الهجريين، اللذين شهدا مولد الصوفية في العالم الإسلامي، فحشد هائل من الزهاد والعباد، كما يقول الدكتور توفيق الطويل في كتابه المهم «التصوف في مصر إبان العصر العثماني» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كان كفيلا بمولد التصوف في مصر.

تيار إصلاحي
تطورت حالة الزهد والورع الإسلامي في نسخته المصرية، ما أسس لولادة تيار صوفي إصلاحي، بدأ في بلورة أفكار دينية وقواعد تميزه عن غيره، حيث بدأت الصوفية تتجاوز مبدأ الزهد، إلى العناية بأمر الدين، وأقحمت أفكارها تفند شئون المجتمع، وظهرت بهذا الشكل الجديد في الإسكندرية عام 200هـ، ودعت إلى المعروف ونهت عن المنكر، وقادت آنذاك ثورة الجروى والسري بن الحكم لإصلاح شئون الحكم.

ذو النون المؤسس
استمرت الصوفية المصرية في التطور، حتى ظهرت في القرن الثالث الهجري مدرسة صوفية راقية، أسسها أبي الفيض ثوبان بن إبراهيم، المعروف بـ«ذي النون المصري» خلال عام 245هـ، ويعتبر «ذو النون» مؤسس التصوف في مصر والعالم الإسلامي، وما يسمى حتى الآن عند الشيعة، بعلم ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية.

تخرج من مدرسة «ذي النون المصري» عدد كبير من صوفية القرنين الثالث والرابع، على رأسهم أبو بكر الزقاق، وأبو الحسن بنان الحمال، وعدد من كبار مشايخ مصر، أبي سعيد الخراز، وأبو على الروزباري، وأبوالحسن على بن الدينوري الصائغ الزاهد، وشيخ الشيوخ محمد بن خفيف أبو عبد الله الشيرازي، وغيرهم الكثير، كما حمل لواء نفس المدرسة في مراحل لاحقة، أعلام ذاعت شهرتهم في العالم بأكمله، على رأسهم «ابن الترجمان» محمد بن الحسين بن على، المولود في 448 هـ والعلامة أبو بكر الطرطوشي المولود في 520هـ وأبو القاسم الصامت المولود في 437هـ، وحافظت المدرسة الصوفية المصرية دائما، على تقاليد وقواعد صارمة، تنطلق فقط من «الطابع السني».

المدرسة المصرية

وتشتهر المدرسة المصرية في الصوفية، بالقرب من الله من خلال التطهر الداخلي والتأمل، وتلقي العون من مشايخ الطرق، أو قادتهم الروحيين، وعلى مستوى الطقوس، لا يختلف الصوفية في شيء عن عوام المسلمين، يدينون بالأركان الخمسة للإسلام، ويعلنون الإيمان بالله، وبمحمد رسول وهادي أمين، ويصلون في اليوم خمس مرات، ويتصدقون ويؤدون فريضة الحج إلى مكة.

وتحتل «الأذكار» مكانة كبرى عند الصوفية المصرية، ويمارسها الأتباع بشكل دوري، سواء بطريقة منفردة أو وسط جماعة، حسب الطريقة والأوامر الصوفية، التي تحدد إن كانت يجب أن تتلى بصوت هادئ أو عال، كما يرى الصوفيون المصريون، أن جسد الإسلام هو الشريعة والقانون، وروحه هي الصوفية والروحانية، لذا يلزمون أنفسهم بالتقاليد النبوية، الداعية إلى حب كل مخلوق من أجل حب الخالق، ويتغاضون عن أخطاء وعيوب الناس، حتى الذين يسيئون إليهم، فالمغفرة عندهم واجب إنساني وتأدب بأدب النبي.

ويقول الدكتور كامل مصطفى الشيبي، في كتابه "الصلة بين التصوف والتشيع: «كانت الدولة الفاطمية دولة مذهبية، تحمل البلاد التي تفتحها على التشيع، وأهم ما عملت عليه صبغ المناخ الديني المصري باللون الشيعي من بوابة التصوف، ولكنها حرصت على أن يكون ذلك دون إجبار، فنشر الدعاة الشيعة مذهبهم في جميع أنحاء البلاد، عبر مجالس الحكمة التأويلية، واستطاعت هذه الحملات، استقطاب شرائح من المصريين، بينما رفض القسم الأكبر التحول إلى التشيع، وظل على عقيدته ومذهبه وعلى ولائه للتصوف السني.

منطق الشيبي يرى أن مثل هذا التنوع والاندماج، يقف خلفه التقارب الذي حدث بين منهج التصوف وتعاليم الإسماعيلية الشيعية، ويرجع ذلك إلى اعتماد دعاة الدولة الفاطمية على مفاهيم التصوف، وإظهار التقارب بينها وبين الفكر الشيعي، وتوضيح أهمية الزهد والورع والتقوى في المدرستين بمرونة وعقل وحكمة، ولم تستغل الدولة الفاطمية سلطتها لإجبار المصريين على التشيع، لذا حافظت الحركة الصوفية المتأصلة في الوعي المصري، على رفضها للخلطة الفاطمية، واستمرت في منهجها السني المتصوف.

الأجواء الجدلية، ومناخ التسامح الإيجابي، لم يكن غريبًا عليه، الدفع بمجموعة من أهم الدعاة الذين خدموا التصوف، ونهضوا بالنسخة الصوفية المصرية، فأصبحت علامة فارقة في تاريخ التصوف الإسلامي، واستمرت هكذا حتى ظهور الإسلام السياسي في مطلع القرن الماضي، واستطاع أن ينحيها جانبا، واستحوذ على الصورة كاملة، ولم تتعلم الصوفية الدرس إلا بعد ثورة 25 يناير، وأصبحت مثل المارد الذي خرج من القمقم، من رابع المستحيلات العودة إليه من جديد.

رموز الأزهر
عرفت مصر خلال السنوات القليلة الماضية، ظهورا لافتا لمشايخ الصوفية في وسائل الإعلام المختلفة، وخاصة بعد انضمام رموز الأزهر إلى الحالة الصوفية، ونجاحهم في إعادة البريق للمنهج العلمي للمدرسة الصوفية المصرية، التي اعتمدت في الأربعة عقود الماضية على المدرسة الطقوسية فقط، كما كان لافتا عودة الحركة الصوفية إلى الاندماج في شئون السياسة وهموم المجتمع، وأصبح قادتها من ذوي المناصب العليا في الدولة، بجانب تنشيط الفن الصوفي، الذي أصبح حاضرا في الأوبرا المصرية، وفي كل المحافل الفنية، مقابل انحسار تام، للإسلاميين، ومنهجهم الرجعي والمتطرفة، مثل الإخوان والسلف.

وتشتهر في الخريطة الصوفية المصرية، طرق الرفاعية، والبدوية، والشاذلية، والقنائية، وهي طرق تعايشت مع كل أنظمة الحكم، حتى شهدت نهضة كبرى في عهد محمد على، إذ ألزمها بالذوبان داخل التشكيلات الإدارية للدولة، وأصدر قرارا بتعيين شيخ لجميع الطرق الصوفية، وجعله مسئولا عن الزوايا والتكايا والأضرحة، وهو نفس التقسيم المتبع حتى اليوم، إذ يرأس شيخ مشايخ الطرق الصوفية، العائلة الصوفية المصرية، ولكن بشيء من التقنين للصلاحيات القديمة للطرق، عملا بقانون رقم (118) لعام 1976، خلال عهد الرئيس السادات، وحسب الهيكلة المعتمدة من الدولة، يرأس المجلس الأعلى للطرق الصوفية، زمام السلطة في إدارة شئون الطرق الصوفية، ويتكون من 16 عضوًا، يعين رئيس الجمهورية شيخ مشايخ الطرق، وتنتخب الطرق الصوفية 10 ممثلين لهم من الجمعية العمومية، على أن تتولى وزارات الداخلية، الأوقاف، الثقافة، والتنمية المحلية، والأزهر، تعيين 5 أعضاء بالمجلس.

ورغم قوة الطرق الصوفية، وخاصة في السنوات الـ5 الماضية، إلا أنها ما زالت أضعف بكثير من نقابة الإشراف، المعنية بمنح الأنساب لأبناء البيت النبوي، وهذه النقابة يتم تعيين رئيسها أيضا من قبل رئيس الجمهورية، وهو تقليد جرى العمل به منذ 1991، كما تضم الخريطة الصوفية المصرية، الاتحاد العالمي للطرق الصوفية، وتهيمن عليه الطريقة العزمية، وقطاع كبير من الأزهريين، ولاسيما أنه حديث النشاة ــ عام 2012 ــ بجانب جمعية علماء الطرق الصوفية.

صراعات
على خلاف الإسلاميين، لم يعرف التاريخ الصوفي أي صراعات مع الدولة، فالصوفية دائما ما تحتفط لنفسها بعلاقة احترام متبادل مع السلطة، ولم تضبط طوال تاريخها، في حالة صدام مهما ضُيق عليها، وكانت أهم حقبة للتوتر بين الصوفية والسلطة في عهد الرئيس عبد الناصر، بعد أن أقدم على تعيين شيخ المشايخ على عكس الأعراف المتبعة في البيت الصوفي، ما أثار بعض التوتر، ولكنه لم يتطور بأي شكل، بل على العكس، أيدت الصوفية ضربات عبد الناصر للإخوان، وخرج أنصارها في مسيرات مؤيدة له بعد التنحي، ولم يختلف الأمر كثير مع السادات، ومبارك الذي عين الشيخ عبد الهادي القصبي، في منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية، قبل الثورة بأشهر قليلة، وتخطى الشيخ علاء أبو العزائم، رغم أحقيته بالمنصب وفقا للأعراف الصوفية، باعتباره الأكبر سنا، والأقدم في منصبه، فدار صراع جانبي بين جبهتي القصبي وأبو العزائم للسيطرة على المجلس الأعلى، إلا أنه ظل في نطاق الغريمين، ولم يتخط باب البيت الصوفي، وبقيت الصوفية على ولائها للدولة.
الجريدة الرسمية