رئيس التحرير
عصام كامل

سارة كولينز تكتب عن يوم الرعب في غزة: رأيت مصابين بأعيرة نارية يدخلون الإنعاش بسرعة البرق.. أعداد المرضى فاقت قدرتنا الاستيعابية.. وحاولت سد أذني عن صرخات المرضى وأنا أتصارع مع أرجلهم المكسورة


سيبقى يوم 14 مايو 2018 محفورًا في ذاكرتي للأبد، لقد عملتُ ممرضة لمدة 13 عامًا في بيئات مختلفة، وكنت أعتقد أنَّني قد انتهيتُ من جميع التجارب السيئة والصادمة التي يمكن أن أمرَّ بها في حياتي.


كنتُ قد وصلتُ إلى غزة قبل أقل من شهر، وكان الوصف الوظيفي الخاص بي هو دعم موظفي قسم الطوارئ وتدريبهم بهدف تحسين خدمات رعاية المصابين -وهو دور لا يتطلَّب التدخل المباشر من جهتي- لكن لم تجرِ الأمور كما هو مُخطَّطٌ لها.

مهمة مختلفة
قبل أسابيع قليلة من موعد سفري إلى غزة، كانت الأحداث على طول السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل قد اندلعت، والتي أسفرت في ذلك الوقت عن إصابة أكثر من 700 شخصٍ بجروح ناجمة عن طلقات نارية، وفي ظل تلك الأحداث، أُخِذَ فريق الخدمة الصحية على حين غرة.

فجأة، اجتاحت غزة عناوين الأخبار مرة أخرى، وبدأتُ أدرك أنَّ مهمَّتي قد تكون مختلفةً تمامًا عمَّا كنتُ أتوقَّعه.

انخرطتُ في العمل فور وصولي هناك، فكنتُ أقضي كل يوم جمعة من الأسابيع القليلة الأولى لي في أقسام الطوارئ في مستشفيات مختلفة لمساعدة الطواقم الطبية المحلية على إبقاء معدَّل تدفق الإصابات الجماعية تحت السيطرة.

كنَّا قد توقَّعنا أنَّ 14 مايو سيكون يومًا شاقًّا، ولكن لم يتنبَّأ أحد بمدى سوء الوضع، كان الجميع في حالة تأهُّب قصوى في المستشفى.

في البداية، قَدِمَ المصابون إلى المستشفى شيئًا فشيئًا، ولكن سرعان ما تحوَّلت القطرات الصغيرة إلى سيلٍ جارفٍ، توافد المصابون الواحد تلو الآخر، وكان معظمهم فتية صغارًا في السن ولكن لم يخلُ الأمر من كبار السن والنساء.

«سرعان ما بدأت الأسرَّة في النفاد، وحتَّى التبرع الطارئ لم يدُم طويلًا»
أغلبهم أصيبوا بطلقات نارية في الساقين، لقد انتقلنا من مصاب لآخر، فاعلين ما في وسعنا من تضميد الجروح وتجبير الكسور إلى وضع أربطة مؤقتة لوقف النزيف وإعطاء المحاليل الوريدية.

التقطنا أطرافًا ممزقةً وحاولنا مرارًا وتكرارًا إيقاف النزيف باستخدام حزمٍ لا متناهيةٍ من الشاش والضمادات.

في الوقت ذاته، كنت أعلم بداخلي أنَّ العديد من الأرجل المُصابة لم يكُن هناك أي جدوى من محاولة إنقاذها.

لمحتُ بطرف عيني المصابين بعياراتٍ ناريَّةٍ في الصدر أو الرأس أو غيرها من الحالات الحرجة التي كانت تُنقل بسرعة البرق إلى غرفة الإنعاش.

أخذ عدد المصابين بالازدياد، سرعان ما بدأت الأسرَّة في النفاد، وحتَّى التبرع الطارئ لم يدُم طويلًا.

خلال فترةٍ وجيزةٍ، لم يكُن أمامنا إلَّا أن نضع مرضانا على الأرض وننحني بجانبهم لتقديم العلاج لهم ورعايتهم.

ادت الأعداد الوافدة أن تطغى علينا سريعًا، إذ رافق كل مريض أفراد من عائلته وأصدقائه، وأصبح القسم الصغير مكتظًّا للغاية.

بعد مرور بضع ساعات، سُحبنا من بين الحشود المُتراصَّة إلى خارج المستشفى وجلسنا على مقعدٍ خلف المبنى.

وضع شخصٌ ما أرغفة الفلافل وأكواب القهوة في أيدينا. لم أصدِّق ما كان يحدث. وبعد عدة دقائق، تدافعنا عبر الجماهير وعُدنا إلى داخل المستشفى.

فاقت الحشود وأعداد المرضى قدرتنا الاستيعابية، ولم يعُد باستطاعتنا فرز المرضى أو تنظيمهم، فتكدَّسوا في أرجاء المستشفى مُستغلين كل مساحة يمكن تصوُّرها.

«لا أذكر أيًّا من وجوه المرضى الذين عالجتهم في ذلك اليوم»
كان من المستحيل العمل بأي طريقة منهجية، كل ما يمكنك فعله هو محاولة تقديم المساعدة للمصاب الأقرب إليك إلى أن يستدعيك أحد الممرضين أو الأقارب لمدِّ يد العون لجريح آخر.

في ذلك اليوم، سُخِّرت الطاقات كافَّة لإنقاذ ما تبقَّى، فتحوَّل عمال النظافة إلى مساعدي تمريض وقدَّمت العائلات أيضًا كل ما بوسعها.

أذكر بوضوح اللحظة التي أدركت فيها مدى سوء الوضع وتدهوره، فقلتُ لنفسي: في هذا المكان حيث يتمسَّك الأشخاص بشدة بعاداتهم وتقاليدهم المحافِظة، تلاشت الحواجز الثقافية فجأة ولم يعد لها مكان، فرأيتُ الزملاء الذكور يُخرجون المقصَّات والضمادات من جيب سترتي، والآباء ينشلون يديَّ ويسحبونني إلى أماكن تواجد أبنائهم بأجسادهم المُلقاة على الأرض.

يأس وإحباط
عمَّت أجواء من اليأس والإحباط في المكان، وتشاجر الأشخاص فيما بينهم، حاولتُ جاهدةً أن أسدَّ أذنيَّ عن صرخات المرضى وأنا أتصارع مع أرجلهم المكسورة. لم يتوفَّر لدينا ما يكفي من الأدوية المسكِّنة وكان علينا أن نوقف النزيف.

أذكر وقوفي في منتصف الغرفة في إحدى اللحظات والفوضى تعمُّ من حولي، قلتُ لنفسي حينها: «لا أدري ماذا أفعل!».. ثم نادتني إحدى الممرضات، سحبتني نحو مريض آخر، وضعت المزيد من الشاش في يدي بقوة، استجمعنا قوانا وتابعنا العمل.

هكذا مضت الساعات، وفي مرحلة معيَّنة أصبحت الإمدادات شحيحة، مما أبطأ توافد المرضى أخيرًا، وبينما تصاعدت الأحداث وازدادت حدَّة توترها، كان الوضع الأمني آخذًا بالتدهور، الأمر الذي دفع إدارتنا إلى سحبنا من المنطقة.

أتذكر العودة إلى المكتب حيث كان الكثير من زملائنا ينتظروننا، أتذكر نظرات القلق على وجوههم عندما لم أستطع كبح دموعي، أتذكر عند وصولي إلى المنزل وضع ثيابي وأحذيتي في دلو يحتوي على مادة التبييض، كما أتذكر لحظة وقوفي وحيدةً في مطبخي، في الظلام، في محاولةٍ منِّي لاستيعاب ما حدث للتو.

الشيء الوحيد الذي لا أتذكره إطلاقًا هو الوجوه، لا أذكر أيًّا من وجوه المرضى الذين عالجتهم في ذلك اليوم.

علاقة خاصة بالممرضات
وفي إحدى المرَّات، أوقفني رجلٌ وأخبرني أنه يميِّز وجهي، إذ اعتنيتُ بوالده الذي كان مستلقيًا على تلك الأرضية المكتظة، وهو ينزف، مرَّ علينا في ذلك اليوم ما يقارب 600 مصاب.

كان هناك طبيبٌ، عملنا في ذات الوقت، وفحصنا العديد من المرضى معًا، اكتشفتُ فيما بعد أنهم أحضروا شقيقه خلال فترة ما بعد الظهر، وتُوفِّي قبل أن يتمكنوا من العثور على زميلي.

مر عام تقريبًا على ذلك، جميعنا وجدنا طريقةً ما لوضع ذلك اليوم خلفنا… ألقيناه في زاوية بعيدة في أذهاننا، واعتبرناه من الماضي حتى نتمكن من مواصلة عملنا.

تربطني علاقة خاصة بالممرضات اللواتي عملت معهنَّ في ذلك اليوم، فإذا لمحت إحدانا الأخرى في تدريبٍ أو ورشة عمل، أو جمعتنا صدفة، نتشارك بإيماءة رأسٍ أو ابتسامةٍ أو تحيةٍ، فنتبادل ذكرى ذلك اليوم بصمت بيننا لثانية واحدة فقط، ثم نواصل.

لقد تركتُ جزءًا صغيرًا من روحي على أرضية غرفة الطوارئ تلك، وأنا أعلم أنه حتَّى بعد مضي فترة طويلة على أحداث غزة وتخطِّي ما حدث، سيبقى ذلك الجزء هناك، كحارسٍ أمينٍ على الذكريات كافَّة.

سارة كولينز.. ممرضة في قسم الطوارئ باللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة
نشر هذا المقال في مجلة الإنساني التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر
الجريدة الرسمية