اعتذار القرني و"نونات" قطر
ليس بمقدورنا إنكار التأثير الكبير للداعية السعودي "عائض القرني"، عبر عشرات الكتب والبرامج التليفزيونية ومئات المحاضرات والندوات، وانسياق ملايين السعوديين والعرب وراء أفكاره وتطرفه باعتباره أحد أبرز دعاة "الصحوة"، وهي تيار إسلامي متشدد انتشر في المملكة منذ نهاية الثمانينيات..
مستهدفا "إيقاظ الناس من الغفوة"، ثم تمادى في الغلو والتشدد عبر فتاوى وأفكار اصطدم بسببها مع التيار الليبرالي، لكن كان لرموز "الصحوة" الغلبة بسيطرتهم على الكثير من المواقع كسائر الجماعات الإسلامية المتطرفة.
أطل "القرني" عبر برنامج "الليوان" معتذرا للسعوديين، بالأصالة عن نفسه ونيابة عن تيار "الصحوة" كله عن "سنوات نشاطه في التيار، وأخطاء الماضي والفتاوى المتشددة التي تخالف القرآن والسنة وبعيدة عن سماحة الدين الوسطي المعتدل، وضيقت على الناس".
رغم أن اعتذار القرني فاجأ الجميع، لكنه قطعا لم يأتِ من فراغ، وسواء جاء عن طيب خاطر، أو نتيجة ترتيب وتسوية معينة، أو خشية مصير مشابه لزميله الداعية "سلمان العودة" المسجون حاليا والمحكوم بالإعدام، أو رؤية سياسية لما آلت إليه المنطقة، فإن الاعتذار أبسط الأمور، فبسبب أفكارهم وتحريضهم وتطرفهم انهارت دول وانقسمت شعوب وتحاربت وتحول الشباب إلى الإرهاب وبعض ممن لم يقتنع بغلو أفكارهم فضل الإلحاد على التطرف والإرهاب وقتل الأبرياء باسم الدين.
ربما لكل الأسباب السالفة غير "القرني" قناعاته وتحول فكريا عن تطرف "الصحوة"، وهو ما انتقده عليه البعض لتأخره كثيرا ما جعل العرب يدفع ثمنه باهظا، بينما رحب البعض الآخر بالاعتذار باعتباره شجاعة ومكاشفة تستحق الاحترام. فيما رأى فريق ثالث أن "القرني" يبدل قناعاته حسب المصلحة، مستشهدين بتأييده أردوغان ودعوته المسلمين إلى دعمه والآن يهاجمه، وقبل ذلك مواقفه المتباينة من الرئيس اليمني "على عبد الله صالح".
برأيي أن أبرز ما أدلى به "القرني" كان هجومه على "قطر وتركيا وإيران والإخوان وفضحه تآمرهم"، وأنهم يستهدفون السعودية.
يقول القرني: "اكتشفت أن النظام القطري وإعلام الجزيرة يخدم (5 نونات).. نون طالبان، نون إيران، نون إردوغان، نون الإخوان، نون حزب الشيطان".. وإن منهج تنظيم الإخوان "يتحمل مسئولية الدماء والحروب الأهلية في الدول العربية".
وصف "القرني" قناة الجزيرة بـ "مسيلمة الكذاب"، وإن قطر استغلته كما استغلت رجال دين آخرين للتغرير بالشباب العربي، كما جندت دعاة ومعارضين لضرب استقرار دول المنطقة، و"كلما ابتعدت عن دولتك.. كلما كنت محبب لدى القطريين". لكن عندما "اكتشفت التآمر القطري، ذهبت إلى حكومتنا بالمملكة واعتذرت.. وقبلوا الاعتذار".
تدحض اعترافات القرني ما تدعيه قطر، من أن مقاطعة الرباعي العربي لها سببها خلافات حدثت في العام 2017، بينما يثبت "القرني" أن التآمر القطري على السعودية والدول العربية بدأ في التسعينيات مع تولي "حمد بن خليفة" الحكم بعد انقلابه على والده، وتعيينه "حمد بن جاسم" وزيرا للخارجية ورئيسا للوزراء، وبدأ بعدها "تنظيم الحمدين" مؤامرة كبرى على العرب دامت أكثر من 20 عاما، يستكملها "تميم بن حمد" بالتعاون مع "أردوغان" والإخوان وإيران ومليشياتها الشيعية والإعلام المرتزق بقيادة "الجزيرة".
نعم أسهم "القرني" في فضح تآمر قطر ومن معها، كما أن اعتذاره شجاعة، لكنه لا يكفي، فهو ومن معه من رموز الدعوة كانوا أبرز أسباب تفشي التطرف والتعصب والفتن والإرهاب في الدول العربية، ولا يمكن القبول بفكرة أن الاعتذار في حد ذاته إدانة و"فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"، لأن حجم الخسائر لا يمكن حصره ويحتاج عشرات السنين لإصلاحه.
"القرني"، "عود في حزمة" تضم مئات الدعاة تاجروا في الدين وجمعوا المليارات، وضللوا أجيال ودمروا أوطان ويجب محاسبتهم جميعا، لمعرفة نهج الجماعات المنتمين لها ورموزها ومصادر تمويلها وكيفية ادارتها وتجنيدها الأعضاء ومخططاتها وارتباطاتها بالخارج، حتى يمكن للدول مواجهتها واجتثاث جذورها، وخلاف ذلك سنظل ندور في حلقة مفرغة.
ولإثبات تأثير "القرني" وأمثاله لا أجد خير مما قاله الفنان السعودي "ناصر القصبي"، فبعد أن هاجم "عائض القرني" لما تسبب فيه خلال سنوات "الصحوة"، غرد ثانية: "تغريدتي حول اعتذار الشيخ "عايض" شاهدها ٤ مليون قارئ وهذا يدل على أثر الشيخ في الناس.. ويظل هذا الاعتذار مهمًا في قيمته وتوقيته.. ولعل الشيخ "عايض" بحضوره القوى يكون قدوة لغيره. لو خرج رموز الصحوة اليوم باعتذار مماثل لاستقبله الناس بحفاوة وشيئا فشيئًا سيجف منبع التطرف والتشدد لدينا".