ليلة مع "محسنة توفيق"!
انفعل قائد الطائرة الروسية التابعة لشركة "إير فلوت" الشهيرة مما يجري وقال: "التعليمات عندي أن آخذ الكلام النهائي منكم.. أنتم الآن تعتبرون على الأرض السوفيتية ولو أردتم الانطلاق سأفعل ذلك"!
كان الطيار السوفيتي قد لمح أن الوفد المصري الذي أمامه والموجود منذ ساعات طويلة على أرض مطار القاهرة قد فوض شخصين للحوار، الأول هو المحامي الكبير "فريد عبد الكريم" القيادي الناصري الراحل، والثاني هو الفنانة الكبيرة "محسنة توفيق"، فكان أغلب حديثه معهما!
القصة باختصار أن كوريا الشمالية قررت إقامة احتفال أسطوري عام 1989 بيوم الشباب العالمي، أرادت له أن يكون تاريخيا ودعمها الاتحاد السوفيتي، قبل تفككه، وكل دول أوروبا الشرقية والصين ليكون منافسا في نجاحه مع أوليمبياد "سيول" التي أقيمت في العام السابق له بكوريا الجنوبية..
كانت الدعوة لأحزاب وشخصيات عامة أعضاء في مجموعة الأحزاب الاشتراكية والتقدمية، وأرسلت الدعوة لكافة الأحزاب العربية الرافضة للنموذج الأمريكي وللهيمنة الغربية على الدول النامية، وكان من بينها حزب التجمع الذي كانت الفنانة الكبيرة "محسنة توفيق" عضوا به..
أما باقي الوفد فضم شخصيات سياسية أخرى.. المحامي الكبير والقطب الناصري الراحل "فريد عبد الكريم" والنائب الراحل "محمد عقل" والصحفي الكبير "حسن بديع" نائب رئيس تحرير الأهرام حاليا، وآخرون من بينهم "أسامة برهان" نقيب الاجتماعيين الذي رحل قبل أشهر، والمحامية والكاتبة "أميرة بهي الدين" ابنة نائب رئيس محكمة النقض وقتها المستشار "محمود بهي الدين" وزوجها المهندس "ماجد"، والمستشار "محمد محمود رفعت" رئيس حزب الوفاق حاليا، وكنت ممثلا للطلبة، ومعي طالب آخر بدأ نجمه كفنان تشكيلي موهوب يظهر اسمه "محمد منير" ثم اختفى فجأة!
ثار الدكتور "عبد الأحد جمال الدين" وهاج وماج وتساءل كيف يتم تجاهل شباب الحزب الوطني! أو طلبة الجامعة من أعضاء الحزب! وطلب من المسئولين وقف السفر لحين إرسال دعوات للحزب!! وكان ذلك مستحيلا بطبيعة الحال، ليس لعدم إمكانية ابتزاز هذه الدول فقط، وإنما لعدم وجود وقت لذلك، وظل الأمر محل تفاوض منذ العصر وحتى صباح اليوم التالي..
كانت أجهزة مطار القاهرة أبلغت متأخرة برغبات وزير الشباب، وكان الجميع قد حصل على آخر أختام المغادرة، وأصبحنا رسميا وقانونيا على أرض الطائرة السوفيتية وبالتالي أصبحنا فعليا على الأرض السوفيتية.. رفضت "محسنة توفيق" ورفض "فريد عبد الكريم" الخضوع لابتزاز الدكتور "عبد الأحد"، أو أن نمثل مصر بهذه الطريقة، وأن الاعتذار عن السفر رغم كلام قائد الطائرة أشرف من السفر هكذا..
وأظهرا كبرياء وتحديا لا مثيل له في التفاوض مع وزارة الشباب ومسئولي مطار القاهرة أرهقهما جدا.. وأدى الأمر إلى فضيحة دولية وقتها تسببت فيها وزارة الشباب، واصبح خبر منع الوفد المصري حديث إعلام وصحف ومسئولي أكثر من مائة دولة شاركت بالمهرجان..
لكن بين الساندويتشات والبسكويت والشاي الساخن قضينا ليلة طويلة أظهرت كثيرا من صفات هذه النجمة الكبيرة بخلاف موهبتها النادرة، لكنها عاشت ورحلت دون مشكلة واحدة.. وبلا إشاعة واحدة.. وبغير عمل واحد يؤخذ عليها.. ملتزمة بقضايا وطنها وشعبها ضاربة المثل والقدوة في كيف يكون الفن لخدمة المجتمع، وكيف تكون المعارضة في كل الأحوال والظروف لمصلحة الوطن، وليس على حسابه ولا فوق جثته!
رحم الله "محسنة توفيق".