عاشوا في مصر ( 9 )
مصرُ.. كنانة الله في أرضه.. منذ ما قبل التاريخ اتسع صدرها لمن ضاقت عنه كل دول العالم، واحتوت كل الطوائف، وشهدت أرضُها نزول الديانات السماوية، وزارها غالب أنبياء الله.. تاريخها سبق تاريخ كل الأمم... إنها "أم الدنيا"، و"المحروسة".. من بين من عاشوا بها، رموز غيرت وجه التاريخ، نروي هنا بعضًا من تفاصيل حياتهم، ونستعرض شيئًا من جوانب عظمتهم.
عروس النيل
«الحمدُ لله يا نيل، يا من تخرج من الأرض وتأتي لتغذي مصرَ، يا ذا الطبيعة المخيفة، ظلام في وضح النهار».. «إنه هو الذي يروي المراعي، وهو المخلوق من رع ليغذي كل الماشية، وهو الذي يسقي البلاد الصحراوية البعيدة عن الماء، فإن ماءه هو الذي يسقط من السماء».
هذه بعض الأناشيد التي رددها المصريون القدماء في احتفالات «الفيضان». وقد بدءوا احتفالاتهم بزيادة النيل بجعل «فيضانه» رمزًا مقدسًا، وهو المعبود المعروف «خنوم»، بجسم إنسان ورأس كبش.
وجاء في أوراق البردى أنشودة للفيضان، تقول: «أيها الفيضان المبارك، أُقيمت لك الأعيادُ، وقُدِّمت لك القرابينُ، فتقبل منا الشكر والاعترافَ بفضلك». وذُكِر أيضًا أن وثيقة كانت تعد وتكتب وتصدر عن ديوان فرعوني وتلقَى في النيل فيقبلها، وكانت عهدًا منه لا يتخلف فيه ويمنح الأرض هباته، ويفي بوعده، ومن هنا جاءت كلمة «وفاء النيل».
وكانوا يلقون في النيل، في زمن الفيضان، قربانًا من «عجل أبيض» و«ثلاث أوزات» و«هدايا ثمينة»، حيث يخرج الناس جماعات حاملين سعف النخيل وأزهار اللوتس، ويلوحون بها وهم ينشدون.
وكانوا يقفون بمواجهة تمثال كبير لمعبود النيل «حمبي»، وأمامه تصطف فرق الموسيقى جالسة على منصة مرتفعة يتوسطها رئيسها وهو يلوح بيديه للفريق حتى يعزف بانتظام. أما فريق المنشدين فكانوا يجلسون بين أفراد الموسيقى، ومعهم فئة مهمتها التصفيق بالأيدي على النغمات، وأمامهم فرقة راقصات يؤدين حركاتهن في رشاقة وخفة وهدوء، وأمام هؤلاء وهؤلاء فضاء، يجلس فرعون على كرسي مذهب فوق منصة مرتفعة أمام قاعدة التمثال «حمبي»، ومن حوله الكهنة والوزير والحاشية، ويلي ذلك مكان متسع لأفراد الشعب.
وكانت المراكب الشراعية تجوب النيل بألوان زاهية، تروح وتغدو فوق سطحه، والناس في فرح، وعلى كل سفينة عازف. ولا يأتي فرعون إلا بعد انتظام الجميع فيقف له الناس، ويجلس بين رئيس الكهنة والوزير، ثم يؤتَى بسفينة مقدمتها على شكل رأس كبش رمزًا للإله المعبود «خنوم» على أكتاف الخدم على نصبين طويلين من الخشب، ثم يضعها حاملوها على قاعدة خاصة بين التهليل والتصفيق والنشيد والرقص والموسيقى.
أما كلمة «عروس النيل»، فأطلقها قدماء المصريين على أرض مصر، واختاروا لها كلمة «عروس» لتشبيه النيل بما يجلبه من خير في «الفيضان» بالرجل حين يدخل على عروسه.
و«وفاء النيل» يعني أن النيل وفَّى بالمياه وقت «فيضانه». ويحتفل المصريون به اعترافا منهم بأن النيل هو الحياة، فعندما «يفيض» ينعم الناس بالخير الغزير، فيستشرف الصغير أزهار اللوتس، ويتمنى الكبير أن تجتمع له كل أنواع الخيرات، ويشتهي الأطفال ألوان العشب، وتغمر البيوت الطيبات. كذلك تُذبح الذبائح، وتسمن الطيور، وتُصاد الغزلان في الصحراء، كما تُقدم القرابين إلى كل إله آخر كالنيل سواء بسواء من بخور، وثيران، وماشية، وطيور (الشواء) فوق اللهب.
وانعكس اهتمام المصريين القدماء بالفيضان على حديثهم وأمثالهم، ومن أمثلة ذلك أنهم كانوا يصفون العمل الناجح بأنه «يفيض» كالنيل، وإذا زاد النبيذ في القباء يشبهونه بماء الفيضان، ويصفون الحارس اليقظ بأنه جسر النيل الذي يحمي البلاد من خطر الفيضان.
والثابت أن حفلة وفاء النيل لدى المصريين القدماء كانت تقام بين الأقصر وأسوان عند جبل السلسلة، وكان يحضرها الملك بنفسه أو من ينوب عنه، وكان المصريون بجانب تقديم القربان للنيل، يلقون فيه قرطاسًا من البردى يطلبون منه أن يفيض، وكان الكهنة يعتقدون أن لهذه الكتابة أثرًا فَعَّالًا في فيضان النيل، وكانت هناك عادة إلقاء عروس بكر جميلة في النيل، تلبس من الملابس أفخرها والحُلى أغلاها.
ومع دخول الإسلام مصر، كان أول عمل قام به «عمرو بن العاص»، أنه أمر بترميم مقاييس النيل التي تعطلت، فأصلح مقاييس أسوان وأرمنت ومنف، وسمع آنذاك بقصة «عروس النيل» لأول مرة، وبقدوم شهر «بؤونة»، قالوا له: إنه إذا أتت الليلة الثانية عشرة من "بؤونة" عمدوا إلى جارية بكر يأخذونها من أبيها بعد ترضيته بالمال، ويلبسونها أجمل الثياب وأفضل الحلي ثم يلقونها في النيل.
فقال لهم «عمرو بن العاص»: «هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله»، وانتظروا ثلاثة أشهر، والنيل لا يجري، ولا يفيض، فكتب «عمرو بن العاص» إلى أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» يسأله المشورة، فرد بأنه بعث إليه ببطاقة، وعليه أن يلقيها في النيل.
فلما قدم الكتاب على "عمرو" فتح البطاقة، وقرأ فيها: «من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر. أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك». وألقى عمرو البطاقة في النيل، فأجرى الله النيل ستة عشر ذراعًا في ليلة.
وصار الاحتفال بوفاء النيل يتم بإلقاء عروسة صناعية من الورق أو الصلصال بدلًا من العروس البشرية.