عاشوا في مصر (7)
مصر.. كنانة الله في أرضه.. منذ ما قبل التاريخ اتسع صدرها لمن ضاقت عنه كل دول العالم، واحتوت كل الطوائف، وشهدت أرضها نزول الديانات السماوية، وزارها أغلب أنبياء الله.. تاريخها سبق تاريخ كل الأمم... إنها "أم الدنيا"، و"المحروسة".. من بين من عاشوا بها، رموز غيرت وجه التاريخ، نروي هنا بعضًا من تفاصيل حياتهم، ونستعرض شيئًا من جوانب عظمتهم.
حملة "ابن العاص"
قد بدأ أول نزوح للقبائل العربية إلى مصر مع حملة "عمرو بن العاص". فتذكر المصادر العربية أن "عمرو" عندما فتح مصر كان معه أربعة آلاف أو ثلاثة آلاف وخمسمئة رجل، وعندما وصل إلى جبل الحلال، انضمت إليه قبيلة راشدة وقبائل من لخم. وهناك قبائل أخرى شاركت في الفتح، مثل: بنو همدان، وبنو الصدف، وبنو بليّ.
وقد اتخذ "عمرو" من الإسكندرية عاصمة لمصر، واختط مدينة الجيزة على غرار خطط الفسطاط.. وذلك لحماية جيشه من الأعداء من جهة الجنوب، ولما استقر في الفسطاط أمر الذين خلفهم بالجيزة أن ينضموا إليه فرفضوا أن يتركوا مكانهم، فكتب إلى "عمر بن الخطاب" بذلك..
فرد عليه "عمر": "كيف رضيت أن تفرق عنك أصحابك؟! ألم يكن ينبغي لك أن ترضى لأحد من أصحابك أن يكون بينهم وبينك بحر، لا تدري ما يفاجئهم، فلعلك لا تقدر على غياثهم حتى ينزل بهم ما تكره فاجمعهم إليك، فإن أبوا عليك، وأعجبهم موضعهم، فابن عليهم من فيء المسلمين حصنا".
فجمعهم "عمرو"، وأخبرهم بكتاب "عمر بن الخطاب"، فامتنعوا عن الخروج من الجيزة، فأمر "عمرو" ببناء الحصن، فبني عام 21 هـ / 641 م، وفرغ من بنائه في العام التالي.
أما تعمير الإسكندرية فكان عن طريق السكن بشكل فردي، فمن أخذ منزلا سكن فيه هو وإخوته وأبنائه. وكانت مدة الإقامة في الإسكندرية ستة أشهر في الصيف، يعقبها شاتية ستة أشهر، وهكذا.
وكان هذا أول استيطان للقبائل العربية في مصر بعد الفتح العربي، ومنذ ذلك التاريخ بدأت القبائل العربية في القدوم إلى مصر بشكل متزايد وثابت، بعد أن ظهرت إلى جانب العامل الاقتصادي، عوامل أخرى سياسية واقتصادية، منها: تشجيع الخلفاء للقبائل العربية على الوفود إلى مصر لتعزيز الجند، واستيطانها.. وكان أغلب الولاة الذين حكموا مصر في فجر الإسلام، يصطحبون معهم جيوشا عربية حتى نهاية العهد الأموي.
إضافة إلى ذلك فقد نفى "معاوية بن أبي سفيان" جماعة من الأزد إلى مصر، كانوا قد خرجوا على "زياد" بن أبيه بالبصرة، فعاقبهم "معاوية" بتغريبهم عن وطنهم، وكان ذلك عام 53 هـ / 672 م، وأمير مصر وقتها "مسلمة بن مخلد"، وكان عددهم نحو 230، فأنزلوا بالظاهر، وهو أحد خطط الفسطاط.
وكان الولاة يرغبون في وجود عصبة لهم في مصر، فيُروى أن "عبد العزيز بن مروان" عندما ولي مصر من قبل أبيه "مروان بن الحكم"، قال لأبيه: "يا أمير المؤمنين؛ كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟!".
وكان المرافقون للوالي ينضمون إلى قبائلهم في مصر، ويظلون بها بعد انتهاء ولاية الوالي، وانصرافه عن مصر.
يُروى أن "عمرو بن العاص"، خطب في جنوده، قائلا: "يا معشر الناس؛ إنه قد تدلت الجوزاء، وذكت الشعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقلّ الندى، وكاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السخائل. وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحي لكم، على بركة الله إلى ريفكم فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جُنَّتكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأثقالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا..
حدثني "عمر"، أمير المؤمنين، أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقطبطها خيرا، فإن لكم منهم صهرا وذمة. فعفوا أيديكم وفروجكم، وغضوا أبصاركم، ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حطته من فريضته قدر ذلك. واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني "عمر"، أمير المؤمنين، أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض. فقال له "أبو بكر": ولم يارسول الله؟ قال: لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة. فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس الورد من الشجر، فحي على فسطاطكم على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال على عياله، إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته. أقول قولي هذا، وأستحفظ الله عليكم".