رئيس التحرير
عصام كامل

عاشوا في مصر (6)


مصر.. كنانة الله في أرضه.. منذ ما قبل التاريخ اتسع صدرها لمن ضاقت عنه كل دول العالم، واحتوت كل الطوائف، وشهدت أرضها نزول الديانات السماوية، وزارها غالب أنبياء الله.. تاريخها سبق تاريخ كل الأمم... إنها "أم الدنيا"، و"المحروسة".. من بين من عاشوا بها، رموز غيرت وجه التاريخ، نروي هنا بعضًا من تفاصيل حياتهم، ونستعرض شيئًا من جوانب عظمتهم.


العرب في أرض الكنانة
في مصر العظيمة، اتسع المقام لكل المذاهب؛ فتجاور مذهب الشافعي، مع مذهب الإمام مالك.. رغم أن المصريين كانوا من أتباع مالك قبل وفود الشافعي.

وفي الوقت ذاته، قدم من صعيد مصر، وبالتحديد من "أخميم"، قطب كبير، هو "ذو النون المصري"، وأسرته من بلاد النوبة، وأقبل في نهم بالغ على استيعاب كل نوع من أنواع المعرفة في عصره.

واستطاع أن يفك رموز اللغة المصرية القديمة "الهيروغليفية"، وقرأ حكمة عصر الفراعنة، كما تبحر في الكيمياء، وجلس إلبى رهبان المسيحية أيامًا وليالي يسمع منهم ما لديهم من معرفة، وطاف ببلاد الإسلام، من المغرب إلى الشام، إلى اليمن، إلى الحجاز. وانتهى به الأمر إلى القول بمذهب المتصوفة، ولم يكن معروفًا ولا مألوفًا في ذلك الوقت. وقال بمذهب الكشف وعلم الباطن، بالإضافة إلى النقل والعقل من مصادر المعرفة.

وعارض هذا القطب الصوفي ما ذهب إليه كثيرون، على رأسهم شيخ المذهب المالكي عبد الله بن عبد الحكم، وشيخ الحنفية القاضي ابن أبي الليث، وأمر الخليفة المتوكل فحُمل إليه ذو النون المصري، وزج به في سجن "المطبق"، ثم دعاه وناظره، وسمع منه كثيرًا.. وكان "ذو النون" عذب الحديث، رائق المنطق، لا تأخذه حدة ولا عصبية، فتأثر به المتوكل، وأمر أن يعود إلى مصر معززًا مكرمًا، وبسط عليه سياجًا من الحماية والأمان.. ويعد "ذو النون المصري" مؤسس الحركة الصوفية الموجودة بيننا حاليًا.

وقد أوصى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بأهل مصر، ويدلل على ذلك حديث مالك بن أنس: "إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا. قال ابن شهاب: وكان يقال: إن أم إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، منهم". وثم حديث آخر، عن عبدالملك بن مسلمة: إنكم ستكونون أجنادًا، وإن خير أجنادكم أهل الغرب منكم، فاتقوا الله في القبط، لا تأكلوهم أكل الحضر".

وحديث عن مسلم بن يسار: "استوصوا بالقبط خيرًا، فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم".

وعن مروان القصاص: "صاهر إلى القبط من الأنبياء ثلاثة: إبراهيم خليل الرحمن تسر هاجر، ويوسف تزوج بنت صاحب عين شمس، ورسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تسر مارية".

وعن عبد الله بن عمرو: "قبط مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة وبقريش خاصة، ومن أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين تخضر زروعها وتنور ثمارها".

كان من الطبيعي أن يشجع الفتح العربي لمصر، وتملك العرب زمام السلطة فيها، الكثير من القبائل العربية على الهجرة إلى مصر.

وذلك لا يعني أنه لم تكن هناك هجرات عربية إلى مصر قبل حملة عمرو بن العاص، وإنما يذكر المؤرخون أخبارا عن هجرة بعض بطون خزاعة في الجاهلية إلى مصر والشام لأن بلادهم أجدبت، كما كان يعيش في الإسكندرية عام 610 م كثير من العرب إلى جانب غيرهم من الإغريق والقبط واليهود والسوريين.

وقد كان غنى مصر معروفا للعرب قبل الإسلام عن طريق العلاقات التجارية بينهم، وعمرو بن العاص نفسه كان تاجرا في الجاهلية، وكان يأتي بتجارته إلى مصر، وهي الأدم والعطر. وهكذا كان التجار العرب على معرفة تامة بأحوال مصر الاقتصادية المزدهرة.
الجريدة الرسمية