أحمد حسن الزيات يكتب: الإيمان الصادق في بدر
التقى الجمعان صبيحة اليوم السابع عشر من رمضان ليبدأ التاريخ عهده الجديد بعد هذه الموقعة.
وكما كتب الأديب أحمد حسن الزيات ـــــــــ صاحب مجلة "الرسالة" ـــــــــ في مجلة "الأزهر"، عام 1373 هـ، يقول:
"اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك الكريم، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض.. ذلك كان دعاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، وجهه إلى القبلة ويداه إلى السماء.
فيرده أبوبكر الصديق، بقوله: "بعض هذا يا نبي الله فإن ربك منجز وعده"، وماهي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل الوعد بالنصر، وجاءت البشرى بالجنة، فغاب المسلمون في إشراق غريب من الإيمان لا يرسم في أخيلتهم إلا الحور، ولا يصور في عيونهم إلا الملائكة.
وقذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر، وانقشع الظلام عن النور الوامض من ربوع يثرب.. وانكشفت المعجزة الإلهية في رمضان.
كانت معركة بدر في رمضان حكمًا قاطعًا من أحكام القدر غيَّر مجرى التاريخ وعدل وجهة الدنيا ومكن للعرب في دورهم أن يبلغوا رسالة الله ويؤدوا أمانة الحضارة.
كان المسلمون في بدر على قلة عددهم وفقرهم ثلث المشركين، وكان المشركون على كثرتهم وعدتهم صفوة قريش، وعليه كان موقف الإسلام من الشرك موقف محنة.
كان بين العدوتين في بدر مفرق الطريق.. فإما أن يؤم محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها الجهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك.
وقفت مدينة الإنسانية بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب.. ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب فكان طريق وعقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان.
فإما أن يحترق تراث الإنسانية على هذا الصخر ويتبدد نور الله في هذا القفر وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس.
وقد أراد الله أن تتم المعجزة فانتصر لثلاثمائة مسلم على قرابة ألف مشرك، وموقعة بدر الكبرى لا تذكر بخطتها وعدتها وثقفتها في تاريخ الحرب، فلعلها في كل ذلك لا تزيد عن معركة بين جيشين في مدينة، إنما تذكر بنتائجها وآثارها في تاريخ المسلم.
لم يكن النصر فيها ثمرةً من ثمار السلاح والكثرة.. لكنه كان ثمرة من ثمار الإيمان والصدق، والإيمان الصادق قوة من الله فيها الملائكة والروح، وفيها الأمل والمثل، وفيها الحب والإيثار، فلا تبالي العدد ولا ترهب السلاح ولا تعرف الخطر.
بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوةً في بدر والقادسية واليرموك، وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية الجديبة والعروبة الشتيتة عمرانًا طبق الأرض بالخير، وملكًا نَظَّمَ الدنيا بالعدل.. ودينًا ألف القلوب بالرحمة.