رئيس التحرير
عصام كامل

عاشوا في مصر (4)


مصر.. كنانة الله في أرضه.. منذ ما قبل التاريخ اتسع صدرها لمن ضاقت عنه كل دول العالم، واحتوت كل الطوائف، وشهدت أرضها نزول الديانات السماوية، وزارها غالب أنبياء الله.. تاريخها سبق تاريخ كل الأمم... إنها "أم الدنيا"، و"المحروسة".. من بين من عاشوا بها، رموز غيرت وجه التاريخ، نروي هنا بعضًا من تفاصيل حياتهم، ونستعرض شيئًا من جوانب عظمتهم.


يوسف الصديق
سيدنا "يوسف"، عليه السلام، هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمّه الأحبّ إلى قلب سيّدنا يعقوب من زوجاته، فكان "يوسف"، بالتالي، الأثير بين أولاده إلى قلبه، وقد رأى "يوسف"، وهو صغيرٌ، رؤيا غريبة قصها على والده، حيث رأى أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر يسجدون له، فحذره والده من أن يقصها على أحد، فجاء بالقرآن الكريم: ﴿لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾، فقد خاف "يعقوب" على "يوسف" من الحسد عندما ظنّ أنّ تفسير هذه الرؤيا مجدًا ينال "يوسف".

ولد "يوسف" في "فدان أرام" بالعراق، ويقال إن عمر "يعقوب" عندما وُلِد "يوسف" كان قد بلغ واحدًا وتسعين عامًا، وأنّ "يوسف" جاء بعد مئتين وواحد وخمسين عامًا لموت سيدنا إبراهيم.

تعلق قلب "يعقوب" بابنه يوسف أكثر وأكثر مع الوقت، فكان هذا سبب حسد إخوته له، ففكروا في الخلاص منه ليخلو لهم قلب أبيهم، فراودوه على "يوسف" حتى سمح لهم بأخذه إلى الرعي. وكان أخذ المواشي إلى الرعي يستغرق عدة أيام، ويطول أحيانًا أكثر، خاف "يعقوب" عليه من الذئب، لكن إخوته نجحوا في إقناعه أخيرًا فذهب معهم.

فما كان منهم بعد أن أخذوا "يوسف" إلا أن ألقوه في بئر عميقة، فمرت قافلة استطاعت التقاطه فأخذته معهم كعبدٍ باعوه في سوق مصر، فاشتراه من السوق رجل كان هو "عزيز" مصر، فأخذه إلى منزله يستبشر به خيرًا، ويقال إنّ هذا حدث زمن الملك "أبابي" عام 1600 ق. م.

كبر "يوسف" في منزل العزيز، وازداد جمالًا حتى هامت به امرأة العزيز حبًا، فكادت له، وغلقت الأبواب عليه تريد المعصية، وكان "يوسف" على دين "يعقوب" أبيه، فأبى المعصية، ودعا الله أن "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ".

فكان لـ"يوسف" ما طلبه من ربه فدخل السجن بضع سنين، وفي تلك السنين حدث أن اتُّهم رجلان بمحاولة تسميم الملك وزاملا "يوسف" في السجن. وذات صباح استيقظ الفتيان، وذكر كلٌ منهما أنه رأى رؤيا، فسألا "يوسف" لِما عرفا من صلاحه، وأخبره الأول رؤياه، وقال إنه رأى الطيور تأكل الخبز من طبق فوق رأسه، والثاني رأى أنه يعصر خمرًا، فأخبرهما أنه سيُئَوِّل لهما رؤياهما بعد حين، وصار يدعوهما إلى دين "يعقوب"، وعندما جاءهما طعامهما بَشَّر أحدهما بالنجاة، وأخبر الآخر أنه سيُصلب ويأكل الطير من رأسه.

كان "يوسف" قد طلب ممن ظنّ أنه ناجٍ أن يذكره عند الملك فأنساه الشيطان، حتى جاء يوم شاهد الملك رؤيا غريبة عجز الكهنة عن تأويلها، فأرشدهم الساقي (وهو الفتى الذي نجا) إلى "يوسف"، وأوّل "يوسف" للملك رؤياه الشهيرة، وبسبب هذه الرؤيا استطاعت مصر تجاوز اثنتي عشرة سنة صعبة.

طلب الصِّدِّيقُ من الملك أن يجعله على خزائن مصر لينقذهم من الجفاف، فاستلم خزائنَ مصرَ، وأحسن إدارتها. في السنوات العجاف جاء إخوة "يوسف" ليشتروا الطعام من مصر فعرفهم "يوسف"، فطلب أن يحضروا له أخًا من أبيهم في المرة القادمة، وأعاد لهم أموالهم ليجعلهم يثقون به، وكان يقصد أخاه من أمه، فراود أخوةُ "يوسف" أباهم مرّة أخرى، لكنهم كانوا صادقين هذه المرة ليأمنهم على أخاهم، ونجحوا بعد أن أقسموا بالله أن يعود معهم، لكن "يوسف" وضع مكيال الملك في بضاعة أخيه، وكان كلّ رجل يأخذ مقدارًا من الحبوب من باب العدل، فما كانت الأموال هدف العزيز، بل أن يغيث الناس، فما كان من "يوسف" إلا أن سأل إخوته: في دينكم ماذا يحصل للسارق؟

وكما حصل وهو صغير فعل "ببنيامين"، فأخذه عبدًا له. لم يصدق "يعقوب" أن ابنه سرق واحتسب الأخ الأصغر، كما "يوسف" عند الله، فعاد الإخوة يرجون العزيز أنّ أبانا مسّه الضرّ، فأعد لنا أخانا، وهنا ذكّرهم "يوسف" بنفسه فعرفوه، وغفر لهم صنيعهم به من قبل، وطلب أن يعودوا ويحضروا قومه وأباه إلى مصر، ففعلوا، وسجد له قومه لتتحقّق الرؤيا، ولو بعد حين.

عند لقاء "يوسف" بأبيه كان "يعقوب"، عليه السلام، يبلغ من العمر مائةً وثلاثين عامًا، وكان عمر يوسف 39 عامًا، وتوفي "يعقوب"، عليه السلام، بعد سبعة عشر عامًا من عودة "يوسف" إليه، أما "يوسف" فقد عاش حتى بلغ من العمر 110 أعوام، ومات وهو في سُدَّة الحكم، ودُفن في مصر.

وقد وردت العديد من القصص في وفاته، عليه السلام، أمّا أرجح الأقوال إنّه عاش طويلا وواجه فرعون وانتصر، ثُمَّ مات وقد بلغ من العمر مائة وعشر سنين، ولكنّهم اختلفوا في مكان دفنه؛ وذلك لشدة رغبة الناس في الحصول على بركته، فاشتد الخلاف بين الناس، وفي النهاية اتفق الجميع على دفنه في نهر النيل؛ لتعمّ بركته على جميع أهل مصر، ودُفن في قبر رخامي مطليّ بالرّصاص وسط النيل.

ثمّ نقل رفاته إلى الشام في عهد سيدنا "موسى"، عليه السلام، وتم دفنه في مدينة نابلس في فلسطين. فقد توفّي سيّدنا "يوسف"، عليه السلام، قبل ميلاد سيدنا "موسى" بأربعٍ وستين عامًا، وبعد ميلاد "إبراهيم" عليه السلام بـ 361 عامًا.
الجريدة الرسمية