الشيخ محمود شلتوت يكتب: شهر النور
في مجلة "الأزهر"، عام 1960، كتب الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر، مقالا قال فيه:
"إن الله في علمه الخلق والاصطفاء، فهو يخلق ما يشاء لما يشاء، ويصطفي ما يشاء لما يشاء، يخلق البشر، ويصطفي منهم للقيادة ما يشاء، يصطفي الأنبياء والمرسلين، ويصطفي منهم العلماء والفلاسفة والقواد المصلحين.
ويصطفي من الأزمنة مواسم لرحمته وأياما وليالي لنعمه وأفضاله، وعلى سُنَّة الاصطفاء في الزمان والمكان والخلق اصطفى شهر رمضان العظيم، وكان هو الشهر الذي تهتز له قلوب المؤمنين، ويذكرون به نعم الله وأفضاله، ويرقبون فيه رحمته ورضوانه، وكان مظهر اصطفاء رمضان عدة أمور، هي:
أولا: أنه الشهر الوحيد الذي صرح القرآن باسمه.
ثانيا: أنه الشهر الوحيد الذي ظهرت فيه أكبر نعم الله على عباده، وهو كتاب الله الكريم.
ثالثا: أنه فرض صومه، وجعل صومه فريضة محكمة، ومن أنكرها فقد خرج عن دائرة الإسلام.. وصوم رمضان عبادة تلتقي في هدفها مع أهداف القرآن؛ فكلاهما يربي العقول ويسمو بالأرواح.
ولرمضان في صومه مظهر خاص فهو يوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل وأوقات الطعام والشراب، يرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس، ويملؤ قلوبهم بمحبة الخير والبر لعباد الله ويغرس في نفوسهم خلق الصبر الذي هو عدة الحياة.
وشهر رمضان هو شهر الذكريات الإسلامية الأولى، فهو الشهر الذي انزل فيه القرآن، وفيه غزوة بدر الكبرى، وفيه عودة المسلمين إلى مكة بعد أن أُخرجوا منها، وبذلك تم الفتح المبين، وفي ذلك يقول الله تعالى: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ".
إن الصوم حرمان من الطعام والشراب وما ألفه الإنسان من شهوات، إلا أنه ليس هذا الحرمان هو المقصود من الصوم وإنما مقصوده هو إعداد نفوس العباد بالصوم للخير والتقوى، لقوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
وعني القرآن عناية خاصة بفريضة الصيام، وجعل منها مظهر وحدة المسلمين، لا يؤثر على هذه الوحدة تباين أمكنتهم، ولا اختلاف ألسنتهم ولا تعدد جنسياتهم، فالإسلام وحَّد بينهم في العقيدة، وفي العبادات والمعاملات وفي الأخلاق والمؤولية؛ الكل يؤمن برب واحد وإله واحد وقبلة واحدة ويصومون شهرًا واحدًا، ويرقبون هدفًا واحدًا، ويرتبطون بالصالح العام.
وأمام هذه الوحدة التي يرسمها الإسلام للمسلمين، ويمد خطوطها شهر رمضان.. أمام كل هذا أهنئكم بشهر النور، وأدعو الله، سبحانه وتعالى، أن يوفق المسلمين في جميع الأقطار للتكاتف والتعاون، وسد منافذ الشر التي تفد إليهم من الاستعمار والاستغلال والإلحادية".