رئيس التحرير
عصام كامل

عاشوا في مصر (1)


مصر.. كنانة الله في أرضه.. منذ ما قبل التاريخ اتسع صدرها لمن ضاقت عنه كل دول العالم، واحتوت كل الطوائف، وشهدت أرضها نزول الديانات السماوية، وزارها غالب أنبياء الله.. تاريخها سبق تاريخ كل الأمم... إنها "أم الدنيا"، و"المحروسة".. من بين من عاشوا بها، رموز غيرت وجه التاريخ، نروي هنا بعضًا من تفاصيل حياتهم، ونستعرض شيئًا من جوانب عظمتهم.


موحد القطرين:
من أقدم الشخصيات المصرية، التي تركت آثارًا لا تمحى، على مر الزمان.. الملك مينا.. خرج من مدينة طيبة "الأقصر حاليًا"، ونجح في توحيد مملكتي الشمال والجنوب. اختلف المؤرخون في تحديد السنة التي بدأ فيها مينا حكم مصر الموحدة، فمنهم من يحدده بسنة 4326 ق. م.، ومنهم من يذهب إلى أبعد من ذلك، ويضع تاريخ هذا الحدث في نحو سنة 5000 قبل الميلاد.

وهناك مؤرخون يميلون إلى التاريخ الأقصر، ويؤرخون الحدث بعام 2900 قبل الميلاد، أو عام 2704 ق. م.، غير أن الآراء أصبحت الآن متفقة على اتخاذ طريق وسط، واستقروا على عام 3200 ق. م، وهذا التاريخ الذي بدأ فيه ملوك مصر المتحدة يحكمون البلاد يعرف ببداية التاريخ المصري.

وترتب على ذلك أنه أصبح مؤسس أول أسرة حاكمة في تاريخ مصر الفرعونية، ولبس التاج المزدوج الذي يتكون من تاج مملكة الشمال "الأحمر" ومملكة الجنوب "الأبيض".

ومن أهم إنجازاته إنشاء العاصمة "من نفر" "منف"، وبداية القصة كما يقول الدكتور والمؤرخ الكبير سليم حسن، حسبما ذكر في موسوعته "مصر القديمة": إن الظاهر أن ملوك الأسرتين الأولى والثانية لم يتخذوا "منف" عاصمة لملكهم، ولم يفكروا قط في نقل مقر ملكهم إليها، وإذن يحتمل أن منف لم تكن يومًا من الأيام عاصمة المملكة المتحدة، والظاهر أن الدور الذي لعبته في تاريخ البلاد كان أقل من ذلك أهمية، فلم تتعد كونها معقلا للبلاد في الجهة الشمالية، أي أنها كانت قلعة حصينة، أما الملوك فإنهم استمروا في إقامتهم في الجنوب الأقصى متخذين بلدة "نخن" مقرًا لهم..

ولذلك كانت أهمية "منف" الإشراف على بلاد الدلتا التي فتحت حديثًا وضمت إلى ملك الصعيد، وقد كان لقرب "منف" من هذه البلاد التي تم ضمها حديثًا أهمية أخرى، إذ جعلتها مركزًا سهلًا لإدارتها، ولا شك في أن "منف" كانت لـ "مينا" ومن خلفوه مركزًا حربيًا مهمًا لصد غارات "اللوبيين" الزاحفين من الجهة الغربية من الدلتا، وهؤلاء "اللوبيون" قد خضعوا بعد أن هُزموا هزيمة منكرة، غير أن توحيد البلاد لم يكن قد تم إلا بعد أن توصل أحد خلفاء "مينا" إلى التغلب على الجزء الجنوبي الأقصى من بلاد النوبة، وهو الواقع بين السلسلة والشلال الأول، ويطلق عليه "تاستي"..

وقد كان هذا الإقليم خارجًا عن حدود المملكة المصرية "الوجه القبلى"، طوال مدة عصر ما قبل الأسرات، ولم يكن مسكونًا بالجنس الأسود كما هو الآن، بل كان يقطنه فرع من الجنس "الحامي"، سكان البلاد الأصليين، والظاهر أن السود الذين يسكنون نوبيا العليا والسودان لم يظهروا في مصر إلا بعد عدة قرون، أي في عهد الأسرة الثالثة وبخاصة في نهاية الدولة القديمة، وذلك بعد التدهور الذي لحق البلاد بعد الأسرة السادسة".

وحافظت مصر الموحدة في كل عهودها منذ حكم "مينا" على ذكرى انقسامها إلى مملكتين، ولم يكن في وسع إحداهما على مر الزمن أن تهضم الأخرى، بل بقيتا على قدم المساواة، ولذلك نجد أن ملك مصر الموحدة لا يحمل لقب ملك مصر، بل ملك الوجه القبلي وملك الوجه البحرى، وكذلك كان يحمل لقب "رب الأرضين" وسيد "نسر" الجنوب وسيد "صل" الشمال، وكان في أول الأمر يحمل التاج الأبيض الخاص للجنوب والتاج الأحمر الخاص بالشمال، ولم يحمل التاج المزدوج إلا في أواسط حكم الأسرة الأولى، وكذا نشاهد هذا التمييز في المصالح الحكومية، فمثلا نجد أن الخزينة مزدوجة، أي خزينة الوجه القبلى وخزينة الوجه البحري، وهكذا.
الجريدة الرسمية