عيون وآذان (سأحاول أن أنتزع بسمة من القارئ)
عندما كنت صغيراً وعلى عتبة المراهقة، كان فى حيّنا سائق باص لقبه «الممسوس»، والكلمة فى القاموس، إلا أنها مستعملة باللهجة العامية اللبنانية، وبالمعنى نفسه، أى المجنون أو الذى أصابه مسّ. أعتقد أن السائق اكتسب لقبه لأنه كان يتعاطى الخمر (أو المخدرات)، أو الاثنين معاً، فكانت له حوادث، أو أحداث، شهدت منها واحداً لازمتنى ذكراه، فقد كنا فى الباص معه فى طريقنا إلى المدرسة فى بيروت، ورأى امرأة حسناء على الرصيف، فأوقف الباص ونزل ليعاكسها، ونحن نتفرج، من دون أن يدرى أن زوجها وراءها على بعد خطوات، وأن الزوج شاويش فى مخفر الحى انهال عليه لكماً وركلاً حتى نزل الركاب لإنقاذه.
لازمتنى ذكرى «الممسوس» العمر كله، فلم أدخن أو أشرب الخمر صغيراً وكبيراً، وكنت إذا قامت إغراءات أتذكر ما حل بالسائق المجنون وأبتعد. وذكراه عادت إليّ فى الأيام الأخيرة، فالأعياد الغربية تعنى الخمر قبل أى شيء آخر، حتى أن المناسبة الدينية تضيع فيها.
هو الحظ الحسن أن أبتعد عن المحظورات، ولن أدعو الآن أو أبشّر ضد الخمر، فالنصح ثقيل الدم، أتجنبه ما استطعت، وإنما أقول فقط إن كل إنسان فى العالم يعرف أن تعاطى الخمر، وكذا السيجارة، يؤذى الصحة، بل يَقتل، ولا أفهم أن يسعى إنسان عاقل إلى إيذاء نفسه، أو جعل الناس يضحكون عليه، فهو تحت تأثير الخمر تبقى عنده قدرة على النطق ولكن يفقد المنطق.
سأحاول اليوم أن أنتزع بسمة من القارئ بالسخرية من ناس يختارون أن يجعلوا أنفسهم موضع سخرية الناس.
السكّير يفكر أنه يوشوش (يهمس) والناس فى الغرفة المجاورة يسمعونه.
ربما اعتقد أن مطلقته (بسبب إدمانه الخمر) تجلس قرب الهاتف فى الساعة الرابعة صباحاً بانتظار أن يهاتفها وتسمع صوته.
يختلف مع رجل فى ضعفى حجمه، ويعتقد أنه محمد على كلاي، فيهجم على الرجل، ويخسر المعركة، وينتهى ممدداً فى الشارع وقد أكل «علقة» أو «قتلة» لا تُنسى.
الناس يضحكون عليه لا معه.
صوته ليس رخيماً، وهو ينسى كلمات الأغنية ولا يتقن اللحن، والناس لا يحبون أن يسمعوه يغني.
ربما جعلته الخمر يعتقد أنه يفهم الفيزياء النووية أو الدستور الروسي، وهو مستعد لدخول نقاش عن تلك أو هذا.
البنت الحسناء لا تريد أن تقضى بقية العمر معه، ثم إنه عندما يصحو سيكتشف أنها ليست حسناء أبداً.
ربما كانت أفضل نهاية للسكير هو أن تحرقه زوجته وهو غائب عن الوعى فى الفراش، وبعد سنوات نرى مسلسلاً تلفزيونياً سورياً عن حياته ليكون عبرة لمن اعتبر.
بما أن التهذيب رياء اجتماعي، فالواحد منا يكتم رأيه الحقيقى فى الناس أدباً، أما المخمور، فيفقد قدرته على الكذب ويقول رأيه الحقيقي، وهو إذا قال رأيه فى مديره فى العمل يجد فى اليوم التالى أنه فقد عمله.
مرة ثانية، أحاول ألاّ أبشّر، وإنما أن أنبه إلى مخاطر السكر، بالسخرية من ممارسيه، وشعب إيرلندا مشهور بحب الخمر، ويفاخر بذلك، وهو شعب يؤيد العرب، والسبب الأصلى الكره المشترك للاستعمار البريطاني، ولكن ربما أزيد سبباً آخر اليوم، هو أن الذى يؤيد العرب هذه الأيام يحتاج أن يكون سكراناً ليفعل ذلك.
قرأت مرة أن أقل شهر يشرب فيه الإيرلندى الخمر هو شباط (فبراير)، لأنه 28 يوماً، كما قرأت قول ممثل إيرلندى أنه لا يشرب الماء أبداً، خشية أن يدمن عليه. وفى حين أن بعض الناس تتحسن شخصيته إذا سكر، فإن القاعدة العامة أن الخمر مؤذية من جميع نواحيها، وتَجَنُّبُها ضروري، لأسباب الدين والدنيا. وكانت هناك طرفة عن إيرلندى وإيرلندية بقيا مخطوبَيْن عشرين سنة، وعندما سئل عن السر فى ذلك قال: هى ترفض أن تتزوجنى وأنا سكران، وأنا أرفض أن أتزوجها وأنا صاحٍ.
الخمر أذى كلها، مثل السيجارة والمخدرات، والرجل الذى صحا ووجد أنه تزوج، اكتشف سريعاً أن الزواج أغلى طريقة فى العالم لغسل ثيابه وكيّها.
نقلاً عن الحياة اللندنية