رئيس التحرير
عصام كامل

دمرت الحرب منزله فقرر المساهمة في ترميم كنيسة نوتردام دون مقابل.. نحات سوري يرد الجميل لفرنسا

فيتو

في تمام السادسة وخمسين دقيقة من مساء الخامس عشر من أبريل الجاري، وحسب توقيت أوروبا الصيفي، كان "جميل علوش" 45 عاما، النحات السوري المقيم في دولة فرنسا منذ العام الماضي، وتحديدا في مدينة "مونبيلييه" يتصفح القنوات الإخبارية الفرنسية، ليفاجأ بالكاميرا مثبتة على مبنى ضخم تأكل النيران جزءه العلوي، لم يتبين ملامحه في بداية الأمر، حتى بادره الشريط الإخباري أسفل القناة بإعلان الخبر الصادم، "اندلاع حريق هائل في مساحة سطح كاتدرائية نوتردام بمدينة باريس، ما أدى إلى اجتياح النيران الجانب العلوي منها تحطم برجي برجي الكنيسة وانهيار المستدقة المركزية، ما كان من جميل إلا أن ابتلع الصدمة ثم أتخذ قراره في اللحظة ذاتها، بالتبرع في ترميم الكنيسة دون مقابل، حتى لو كلفه ذلك عمل سنوات طويلة، كنوع من رد العرفان للدولة التي أحسنت استقباله وعائلته منذ يومه الأول بها.



تعود جهود توطين النحات السوري "جميل علوش" وأسرته المكونة من خمسة أفراد، إلى مطلع عام 2018، حينما ساهم برنامج إعادة توطين اللاجئين، ومنظمة "كادا" المعنية بتقديم التسهيلات والأوراق وتوفير محال الإقامة للاجئين السوريين داخل أوروربا وتحديدا في فرنسا التي تحوي نحو 4000 لاجئ سوري وفق إحصائيات عام 2018، في توفير مسكن مكون من طابقين وحديقة صغيرة في أحد أحياء مونبلييه الهادئة، بعد أن أكلت الحرب الدائرة في سوريا منذ مارس 2011 على الأخضر واليابس، عصفت بما تبقى من ذكريات علوش في بلدته "الزبداني" بريف دمشق فلم تبق منها إلا النزر اليسير في ذاكرته، سقطت قذيفة على منزله في 2012، بالكاد نجا هو وعائلته من هذا القصف الذي يصفه بالوحشي، في ليلة كانت هي الأشرس من نوعها، فلم يُدمر فقط منزل جميل وعائلته، بل المدينة بكاملها غرقت في الضباب وخيم عليها روائح الموت والحرب.

" لم أجد مفرا من ترك بلدتي ووطني الذي قضيت فيه كل سنوات عمري. في لبنان كان مستقرنا الجديد، حتى عام 2018 ثم سافرت مع عائلتي إلى فرنسا واستقريت في مدينة مونبيلييه عبر برنامج إعادة التوطين، لم نجد أية صعوبة في السفر واعطتنا إقامة عشر سنوات بعد شهر من وصولنا فرنسا".


وفقا لشروط الإقامة التي وُضعت لجميل، يحق له البقاء في فرنسا عشر سنوات منذ الشهر الأول لوجوده هناك، لم يترك عمله الذي انخرط به منذ كان في سنوات عمره الأولى، ظل يمارس عمله كنحات للزخارف والتماثيل والأعمال الأثرية كافة، حاملا معه تاريخا من العمل الإبداعي المتواصل: "أنا عملت في نحت التماثيل والرخام والأسمنت وبناء الكنائس والمزارات منذ أن كنت صغيرا في السن، أسست ورشة إعمار وترميم كنائس في لبنان في التسعينات مع المهندس الكنسي جوزيف عقيقي، ورممت عشرات الكنائس الأثرية مثل كنيسة السيدة بِشوات، ومطرانية الدير الأحمر، كما عملت في بناء الكثير من الكنائس ذات الطابع القوطي وتخصصت في هذا الفن الكلاسيكي تحديدا، لما له من روعة مهيبة ساهم في تدشين الأدمة والصفراء وغيرهما من الكنائس"".

ترك جميل في بلدته "الزبداني" أثره قبل أن يرحل ويتركها دون أمل في العودة مرة أخرى : "عملت في ترميم القلاع والقصور في داخل سوريا وتحديدا قصر غيث فرعون في الزبداني، وقلعة الفارس وآخر أعمالي في سوريا قبل اندلاع الحرب وخروجي كانت مشاركتي في تأسيس القرية الفرعونية والبتراء في سوق الزبداني".


تلك السنوات من العمل في مجال النحت وشغفه الشديد بهذه المهنة، دفعته إلى أن يتقدم إلى "السيكوري الكاثوليك"، أو الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في فرنسا، برغبته وعدد من زملائه في المساهمة في إعادة ترميم الكاتدرائية، من خلال العمل على إعادة إحياء الزخارف والأعمدة الخارجية للكنيسة، من خلال عرضه أعماله السابقة على الجهات المختصة، والتي وافقت بدورها وأخبرتهم باعطاء اللجنة مهلة شهر ونصف حتى ينتهي التصويت على اختيار المهندسين والمجسم الذي سيكون عليه المبنى الحديث للكنيسة من خلال الماسح الضوئي: "أنا أعلم أن إعادة إحياء ما خلفته النيران بنوتردام يحتاج إلى نحو خمس سنوات عمل متواصل وجيش من المهندسين والمهنيين وأموالا طائلة".

"أعلم أيضا أن مبادرتي هذه والتي أكدت فيها على عدم رغبتي في الحصول على أي مبلغ مالي مهما كانت المغريات نقطة في بحر عظيم من المساهمات والمبادرات الدولية، لكني حبيت أشارك في إعادة ترميم هذا الصرح والتراث الإنساني دون مقابل، وبحكم خبرتي في هذا المجال وأقدم شيء بسيط من رد العرفان والجميل لفرنسا التي احتضنتني وعائلتي وكل السوريين الفارين من الحرب ومعاملتها الجيدة لنا أثناء الإقامة، فقد منحتنا الحياة بعد أن فقدنا الأمل في الحصول عليها مرة أخرى".


قبل أشهر قليلة زار جميل الكاتدرائية في رحلة سياحية رفقة الزوجة والأبناء الأربعة، شغفه وتعلقه بكل ما يتعلق بالفنون الأثرية والمنحوتات والزخارف التي تحويها أية كنيسة أو مزار أثري تقع عليه عيناه، جعل روحه تواقة لهذا الصرح الأثري الضخم، وصفه بالعبق الإنساني الذي لن يتكرر كثيرا، أراد الا تكون تلك هي الزيارة الأخيرة له هناك، حتى أنه عقد النية على تكرار الزيارة قبل اندلاع الحريق بأيام قليلة، لكن القدر داهم مخططه وشاء ألا يكون جميل مجرد زائر عابر لكنيسة نوتر دام الفرنسية، بل أحد العاملين في إعادة ترميمها:" اتمنى أن تكون بصمة صغيرة داخل هذا الصرح المهيب، أيضا أتمنى أن نعطي انطباعا جيدا لدى الفرنسيين والمجتمع الأوروربي عن السوريين والعرب وبما أن الأقدار أتت بنا إلى هذه البلد فيجب أن نتفاعل معه ومع حزنه وفرحه ونكون فاعلين فيه نأخذ من ثقافته ونعطيه من ثقافتنا ولا نكون مجرد عالة على هذا المجتمع".

ذاق جميل ويلات الحرب عرف كيف يمكن لنيرانها أن تبيد أثر أو تاريخ مرت عليها آلاف السنوات ". لقد ذقنا هذا الألم في السابق منذ 2011، ومازلنا تنذوقه حتى هذه اللحظة، صروحنا التاريخية وهويتنا الثقافية دمرتها الحرب تماما".


الجريدة الرسمية