فلول العالم العربي
سبحان من له الدوام يعز من يشاء ويذل من يشاء، بالأمس القريب كانوا يختالون في مواقعهم وبين غمضة عين وأخرى أصبحوا فلولا في غياهب السجون والمعتقلات، ومن قفز من السفينة اصطبغ بألوان الحكم الجديد في مصر واليمن وتونس وسوريا والجزائر والسودان..
هي ظاهرة تستحق الرصد، وأبرزهم منتسبي حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي في الجزائر، والبعض من كانوا يسمون أنفسهم بالمستقلين، وهؤلاء جميعهم عملوا مع النظام منذ ولادته في تسعينيات القرن الماضي، وكانوا مستعدين للذهاب إلى العهدة الخامسة وإلى الأبد مع بوتفليقة.
رغم الأوضاع المزرية التي تمر بها الجزائر على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية كانوا مستعدون أن يتمسكوا برجل بلغ من العمر عتيا، وقد أنهكه المرض. لولا الحراك الشعبي الذي أسقط نواياهم اتجاه الشعب واتجاه الجزائر لاستمروا في عتوهم، لا يهمهم أبدا أن تذهب الجزائر إلى الهاوية ما دامت مصالحهم محفوظة. "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
الهبة الشعبية الكبيرة التي ولدت من رحم المعاناة، وهو خليط من المعاناة والوعي دفع الجزائري أن يحذوا حذوا أجداده في النضال إبان الثورة الجزائرية التي لم تنجب الاستقلال فقط، ولكنها أنجبت معها خلفية ثقافية وسياسية، ولهذا يحاول العسكريون استيعاب الحراك الشعبي بالتضحية بعدد من رجال بوتفليقة ومليارديراته بعد التضحية به.
في السودان المتظاهرون يضغطون على العسكريين لتسليم السلطة للمدنيين، والمدنيون ليسوا جاهزين، وليسوا موحدين، فلا رؤية موحدة، ولا قيادة موحدة وهناك. مخاوف من قبل المعتصمين في أنه حال فض الاعتصام لن يتم تنفيذ مطالبهم التي دفع ثمنها العديد من الشهداء، الذين سالت دماؤهم ذكية من أجل إنجاح الثورة والوصول إلى هذه المرحلة المهمة.
وكان نظام الإنقاذ قد فرض سيطرته على جميع مفاصل الدولة طيلة الثلاثين عامًا الماضية عبر ما سُمي بالتمكين، وهو ما زرع حالة من الخوف والتوجس من استمرار ما عرف بالدولة العميقة، ومحاولة انقضاضها على نجاحات الثورة التي تحققت حتى الآن.
والمشهد بتفاصيله تكرر في تونس ومصر واليمن ذلك أن من قاموا بالانتفاضة أو الثورة لم يكن لديهم خطة للخطوة الثانية، ولا يوجد في أدبيات السياسة العربية أي دراسات عن إدارة الفترات الانتقالية، ولولا الإدارة الذكية للجيش المصري لوقعت مصر فيما تمر به دول المنطقة، وحتى القوى السياسية كانت الملاحقات الأمنية قد أنهكتها، ولم تعد فاعلة في الحراك الشعبي..
وراحت النخب العربية تلتحق بالقادة الجدد، وتقدم لهم التبريرات للاستبداد الجديد، ولم يعد هناك إلا عدد قليل من الأحزاب الجديدة الصغيرة، لديها أمل في صنع تأثير في الانتخابات، ومن المرجح أن تندمج أو تنهار، ذلك في الوقت الذي يحاول فيه أنصار بقايا الأحزاب الحاكمة السابقة المنحلة إقامة أحزاب خاصة بهم، ويخططون للعودة من جديد للمجال السياسي، فيما قد يؤدى إلى الفوضى بعودة النظم القديمة في ثياب جديدة وذلك بعد ثمانى سنوات من خروج الجماهير لإسقاط نظم حاكمة كانت قد شاخت وفسدت وحرمت الناس من حريتها وكرامتها..
فإن الدول العربية التي حافظت على كيانها ووحدتها، بدلا من أن تستجيب لمطالب الناس بالحرية وسيادة القانون، اعتمدت في تثبيت شرعيتها واستقرارها على الرهان على النجاح الاقتصادى فقط، ولكن عادت لإحكام قبضتها على المجتمع باستخدام ذات الوسائل والأدوات السائدة قبل ٢٠١١ وإن كان بحنكة وكفاءة أكبر على نحو ما يتضح من سيطرتها على الإعلام وعلى المجالس النيابية وعلى النشاط الأهلي.
هذه العودة لذات المنطق والأساليب سوف تؤدى إن عاجلا أم آجلا لموجة جديدة من التغيير، خاصة إذا تعثر الإصلاح الاقتصادى المعول عليه لأى سبب، أو استمرت وتيرة الإحباط بين الشباب العربى. وفِى تقديرى أن المرشح للتغيير هذه المرة لن يكون فقط الجمهوريات التي شهدت صعود وأفول الثورات العربية في الموجة السابقة، بل أيضا الدول التي نجحت حتى الآن في تجنبها..
لأن الإحباط بين الشباب العربى ظاهرة جامعة، وإن كان لأسباب مختلفة. التغيير قادم إذن ولو بعد حين. والمهم ألا يأتى بفوضى أو عنف أو مواجهات في الشوارع كما جرى من قبل، لأن الفوضى هذه المرة ستؤدى للتفكك والاقتتال والانهيار في تلك البلدان العربية التي تجنبت هذا المصير من قبل، وهو ما لا يتمناه أحد.