ليتَ البابا يفعلُها!
حسنًا.. فعلَ البابا "تواضروس الثانى"، فقد قطع الرجلُ، بخلقه الرفيع، الطريقَ على المزايدين ومُفتعلى الأزمات وصُناع الفتن ومُشعلى الحرائق، وطلب العفوَ عن موظفة وزارة العدل التي كانت ضمن اللجنة التي أدلى فيها بصوته في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وعدم توجيه أية عقوبة لها.
كانتْ قبائلُ السوشيال ميديا أقامتْ الدنيا ولم تقعدها؛ احتجاجًا على ما اعتبره الناشطون تجاهلَ الموظفة النهوضَ من مقعدها فور دخول البابا اللجنة، وتناوبوا على الإساءة إليها ووصفوها بكل قبيح، وأضفوَا على الواقعة طائفية بغيضة، وعنصرية مريضة!
كلُّ إناءٍ ينضحُ بما فيه، فالبابا تسامح وتواضع، مُتجسدًا تعاليم المسيح، عليه السلامُ، أما الذين في قلوبهم مرضٌ، فاستغلوا منصَّات التواصل الاجتماعى أسوأ استغلال؛ لاصطناع أزمة واختلاق فتنة، وبالغوا في إهانة سيدة خمسينية لا تملكُ من أمرها شيئًا، ولا يمكنها مجاراة موجاتِ الشتائم المُتلاطمة التي انهالتْ عليها من كلِّ صدب وحدب من الفضاء الألكترونى.
المصريون ينظرونَ إلى رأس الكنيسة المصرية، الحالى ومن سبقوه بإحسانٍ، دائمًا وأبدًا، بكلِّ احترام وتقدير، حتى أنَّ المجلسَ الأعلى لتنظيم الإعلام، ألزمَ وسائلَ الإعلام: المقروءة والمسموعة والمرئية، بأن يسبق اسمه لفظة "قداسة"؛ إجلالًا وتعظيمًا، يستحقُهما دونَ شكٍّ، فما كلُّ هذا القبح؟ ولماذا هذه الانتهازية، وما سرُّ هذا الغلو من هؤلاء الصغار والمراهقين دينيًا؟
هذه ليستْ أخلاقَ المسيح التي تقومُ على المحبة والرفق والسلام والتواضُع واللين، ولا هي أخلاقَ المسيحيين المصريين الذين يُنظرُ إليهم باعتبارهم "شركاء الوطن الواحد، وأيقونات المحبة والسلام"، لا سيما أنَّ التعليقاتِ تجاوزتْ حدودَ الانتقاد المسموح والعتاب المُباح إلى مستوى مُتدنٍ من السُّخف والغِلظة والسبِّ والقذف والشتم!
مَنْ أَمِنَ العقوبة أساءَ الأدبَ، وما حدثَ عبرَ منصَّات التواصل الاجتماعى، حيالَ هذه الواقعة، فاق كلَّ وصف، وتجاوز كلَّ خيال، في ظل التغاضى عن تجاوز المتجاوزين وإساءة المسيئين، ولو تمَّ ملاحقة أحدهم مرة واحدة قضائياَ، وهذا ليس مستحيلًا ولا صعبًا، لابتلع الجميعُ ألسنتهم والتزموا الأدبَ، وما كرروا خطاياهم مُجددًا.
مُعظمُ النار من مُستصغر الشرَر، والهجومُ الإلكتروني الذي تم إعلانه على "سيدة اللجنة الانتخابية"، كان من الممكن أن يقابله على الشاطئ الآخر من النهر، هجومٌ مماثلٌ، وربما تطورتْ الأمور إلى ما هو أسوأ وأضلُّ سبيلًا.
هذه الواقعة التي أطفأ البابا "تواضروس الثانى" بحكمته وفطنته جذوتها، وأطفأ نارَها مبكرًا، دالة وكاشفة عن أن تحتَ الرماد نارًا، ومؤكدة أن ما يرتديه بعضُنا من أقنعةٍ للرحمة والمحبة والتسامح، ليستْ إلا أقنعة واهية وزائفة وخادعة!
لا أحدَ يقرُّ أو يوافقُ على الإساءة لرجالات الدين الإسلامى والمسيحى، كبيرهم وصغيرهم، ويجبُ أن نبذل جميعًا الاحترام والتقدير لهم دون تمييز، غيرَ أنَّ احترام الأديان وطاعة أوامرها أعظمُ وأقومُ سبيلًا، وليس هناك دينٌ يُحرِّضُ أتباعه على إهانة سيدة بهذا الشكل المزرى، مهما اقترفتْ من حماقة، سواء كان ذلك بحُسن نية أو بسوء قصدٍ!
شيخُ الأزهر الشريف الدكتور "أحمد الطيب"، في مرمى هجوم عدد من وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، منذ ثلاث سنوات، لأهدافٍ لا تخفى على أحدٍ، ورغمَ ذلك.. لم تشتعلْ منصَّاتُ التواصل الاجتماعى، ولم تعلنْ الحرب على مُنتقديه، المأجور منهم والمتطوع، ومثلما أظهر البابا تسامحًا ورفقًا مع هذه السيدة، فإن شيخ الأزهر الشريف تجسَّد تعاليمَ محمد والمسيح عليهما السلامُ، وقال لمن هاجموه ويهاجمونه: "سلامًا.. سلامًا".
أتمنى لو أنَّ الكنيسة المصرية استقبلتْ "سيدة اللجنة"، ووجهتْ لها اعتذارًا عمَّا بدر في حقها من صبيان فيس بوك وتويتر، فإنها بذلك تكون قد ضربتْ المثل الأعلى والقدوة الحسنة، للمتنطعين والمتربصين ومن في قلوبهم مرضٌ، وقدمتْ صورة مثالية لما يجبُ أنْ تكونَ عليه قيمُ التعايش والمواطنة في مصر.. ليتَ البابا يفعلُها!