لويس عوض يكتب: نموذج للفنان الشامل
في مجلة المصور عام 1986 كتب الدكتور لويس عوض مقالا يرثى فيه الشاعر الفنان صلاح جاهين قال فيه:
أنا لم أعرف رجلين تجسدت فيهما روح ثورة عبد الناصر مثلما تجسدت في صلاح جاهين وعبد الحليم حافظ، كل في حدود فنه، كانت بدايات صلاح جاهين هي البدايات التقليدية لأى شاب يساري النزعة عمره 21 سنة قبل قيام ثورة 1952، وكان وقتئذ يتأرجح بين التعبير بالفصحى والتعبير بالعامية.
واكتشف صلاح جاهين فؤاد حداد الذي كان يكبره بقليل وأبهر بشعره العامى الذي كان فؤاد حداد يعبر به عن آلام الشيوعيين المصريين في السجون المصرية في أواخر عهد فاروق، فكان هذا الاكتشاف هو الحاسم في اختيار صلاح جاهين للغة العامية أداة للتعبير عن وجدانه الوطنى والاجتماعى فاتجه إليها، وكان من قبل ينسج القصيدة العربية على نول امرئ القيس والمتنبي، لكنه لم يجد في نماذجه الفصحى ما يعينه على التعبير عن وجدانه الوطنى والاجتماعى بمثل ما وجد في شعر بيرم التونسى وفؤاد حداد.. فكف عن التقليد بعد أن اكتشف نفسه.
أما شعر الوجدان الفردى كشعر الغزل والغرام الذي كان يقرؤه صلاح جاهين لشعراء الفصحى في تلك الأيام فقد وجه شعرا ملفقا مزيفا ينقصه الصدق في التجربة والعاطفة وبالتالى ينقصه الصدق في التعبير.
في تلك الأيام العظيمة أيام المخاض الثورى بين نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة 1952 كان الشباب المثقف يرى طريقه واضحا نحو تحرير الوطن والشعب من الاستعمار والباشوات.
كان هذا الطريق هو الاندماج في الشعب وقيادته إلى تحطيم أغلاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية وربما كان خير معبر عن هذا الغليان الاجتماعى هو ما كان يسمى يومئذ "وحدة المثقفين والعمال" وكان خير تعبير عن هذه الوحدة هو تكوين اللجنة الوطنية للطلبة والعمال عام 1946 وهى اللجنة التي اسقطت صدقى باشا ومعه مشروع معاهدة صدقى بيفن بما تضمنته من إقامة حلف عسكري للدفاع المشترك وكان الشيوعيون والطليعة الوفدية يسيطرون على هذه اللجنة ولذا أمكن للديكتاتوريات المتعاقبة أن تحطمها وتشتت أنصارها في السجون والمعتقلات.
في عام 1946 كان عمر صلاح جاهين ست عشرة سنة وفى هذا الاختمار الوطنى الشعبى الذي وقف بالبلاد على حافة ثورة تجدد ثورة 1919 في أبعادها الوطنية وتضيف إليها بعدا جديدا هو تحرير الطبقات الشعبية فلاحين وعمال من الإقطاع والرأسمالية.
في هذا الاختمار تكون وجدان صلاح الوطنى ولم يكن صعبا عليه أن يلتقى بالتقدميين والثوريين والماركسيين بكليات الجامعة ومقاهى القاهرة ونواديها وصحفها ومعارضها الفنية.
من هؤلاء الشبان الماركسيون الذين قرأ لهم صلاح جاهين الشاعر فؤاد حداد ومنه تعلم في عام 1951 أن التعبير بلغة الجماهير لا يتجزأ من الالتحام بالجماهير.
وأي كان الأمر فإن صلاح جاهين رغم مخالطته لليسار المصرى وتأثره به منذ شبابه الباكر لم يأخذ عنه التشخيص الماركسى ولا الحلول الماركسية، ولم يأخذ عن الطليعة الوفدية حلولها الليبرالية الثورية لأنه كان يحمل في قلبه أرقى تقاليد الحزب الوطنى القديم كما ترسبت في وجدان محمد فريد ورثها عن جده الصحفى المجاهد أحمد حلمى زميل محمد فريد.
وهذا هو الذي مكنه من الاندماج في التيار التقدمى الناصرى من ثورة 1952 ذلك التيار الذي جمع في وقت واحد مبدأ التحرر الوطنى المطلق ومبدأ الاشتراكية المخففة.
ومواهب صلاح المتعددة جعلت منه عند نضجه نموذجا للفنان الشامل الذي يحسن الشعر الغنائى وبحسن الحوار المسرحى وإذا أضفنا إلى ذلك موهبته التشكيلية أدركنا كيف حقق جاهين إطلالته على فن السيناريو وبموهبته الكاريكاتورية تم له زواج الفنون.