رئيس التحرير
عصام كامل

الذين صنعوا التاريخ وعكسه


يقول "جورج أورويل": ثائر اليوم طاغية الغد، بينما يري "ديستويفسكى" أن السلطة المطلقة نوع من المتعة، ولو كانت على ذبابة، ويقول "المختار الثقفي": في عالم السياسة عرفت أن رجالها لايعرفون إلها غير عروشهم!!


من يقرأ تاريخ عدد كبير من مناضلينا في أمتنا العربية، فإنه يرى تلك الأقوال تنطبق بالحرف على معظمهم، خاصة من وصلوا إلى السلطة، فلم يعرفوا إلها آخر غير عروشهم، وأخذتهم متعة السلطة بعيدا عن كل ما قالوه وآمنوا به أيام نضالهم الوطني الخالص، في الكرسي شيء لاتعرفه إلا إذا جلست عليه، ووجدت أن الجميع يضحكون من نكاتك التي كررتها ألف مرة كما يقول غازي القصيبي.

فجأة يرى الديكتاتور نفسه الوصي على الجميع، والعالم الوحيد ببواطن الأمور، وتنشأ إشكالية الشك بينه وبين شعبه كما يرى "أدونيس"، فهو يشك في إخلاص شعبه، وشعبه يفقد الثقة فيه، وكلاهما يمارس شكه بطريقة مختلفة، من في السلطة يرى الجميع متآمرين، والشعب يرد على ذلك بالاحتماء في وصلات النفاق، أو الانعزال تماما، أو ممارسة مهمة التصفيق الحار على الفاضى وعلى المليان إن وجد.

من يعيد قراءة تاريخ الرئيس الجزائري يعرف جيدا ملامح هذا التحول، فهو المناضل الذي شارك في تحرير بلاده، وهو أصغر وزير شباب على مستوى العالم، وتقلد منصب وزير الخارجية في السادسة والعشرين من عمره، وقاد وهو في هذه السن أكبر المعارك الدبلوماسية، من أجل تحرر قارته أفريقيا، وناضل من أجل الوحدة العربية، وقدم نموذجا فريدا من العمل الوطنى والجهادي والقتالي من أجل الحرية والاستقلال..

وتحول "بوتفليقة" في هذا الوقت إلى رمز قيادي في العالم الثالث، يدافع عن المطحونين ويقاوم المحتلين في كل بقاع الدنيا.. صحيح تلى ذلك عدة اتهامات بفساد، غير أن الرئيس "الشاذلي بن جديد" عفى عنه، وغادر البلاد ثم عاد إليها، كل شيء كان يمضي في طريقه، وهو لا يزال رمزا عربيا وجزائريا وأفريقيا، حتى وصل إلى الكرسى، وحدث ما لا نعرفه نحن الذين لم نصل إلى هذه المحطة.. تحول مدهش.

أصابته حمى السحر السلطوي الرهيبة، وتمكنت منه، وتملكته نزعة الخلود في متعة السلطة المطلقة التي لا حدود لها، ليرسخ للجهل والفقر، ويسلب الوطن الحر الأبي كل مقومات بقائه، وينزع عن جزائر الشهداء قيمة الحرية، ويوطن مكانها نظام الحكم الفرد، الديكتاتور المتحكم في كل شيء، استباح تاريخه قبل أن يستبيح تاريخ بلاده، وأصل للفساد الممنهج، وسرق وقتل ودمر، ووأد الناس الذين قاوموا إمبراطورية الشر الفرنسية، ليتحول الشعب في عهده إلى أسير.

ظن "بوتفليقة" وهو شبه ميت أنه لايزال قادرا على الخلود، حتى استعاد الجزائريون جذورهم الأبية الحرة، فثاروا وأصبح هو طريدا لا يضمن لنفسه ثلاثة أمتار يدفن فيها، في بلاده التي أحبها وعشقها ودافع عنها، مقاتلا، ومناضلا، ودبلوماسيا، وسياسيا، ثم انقلب عليها وعلى نفسه وعلى تاريخه، ليصبح رمزا للفساد في أعتى صوره، والديكتاتورية في أبشع قيمها، والظلامية في أحقر مراحلها.

لقد صنع "بوتفليقة" التاريخ وعكسه، وندهته نداهة السلطة، فأصبح مجرد عفن يبحث عن سلة مهملات، تقبل أن تحويه، أو تستره، أو تقبل به، ليجد لنفسه مكانا حتى لو كان منبوذا!!
الجريدة الرسمية