أسامة شمس الدين يكتب: الحقوق الدستورية لرئيس الجمهورية "العفو عن العقوبة" (٢)
تناولنا في المقال السابق العقوبة، وما كانت تهدف إليه قديمًا من العذاب أو القسوة والشدة والعنف دون هدف يراد تحقيقه، وما مرت به من الطابع الديني والاجتماعي والسياسي، وما انتهت إليه من تقويم الجاني وإعادة إدماجه في المجتمع، ثم بين هذا وذاك كان حق العفو عن العقوبة، كما فرقنا بين نوعين من العفو هما العفو والعفو الشامل.
وتأسيسًا على ذلك سوف نتناول موقف الدساتير المصرية من حق العفو عن العقوبة في ثلاث حقب تاريخية فارقة؛ الحقبة الأولى: مرحلة ما قبل ثورة 1952، والثانية ما بعد ثورة 1952، والحقبة الثالثة ما بعد ثورة 25 يناير 2011 إلى ما بعد ثورة 30 يونيو 2013، وسوف نخصص هذا المقال للحقبة الأولى فقط؛ لأهميته في التاريخ الدستوري المصري باعتبارها مرحلة التأسيس للدساتير اللاحقة.
الحقبة الأولى للتأسيس الدستوري لحق العفو عن العقوبة في دساتير؛ الملكية.. ما قبل ثورة يوليو (1952):
صدر قبل ثورة يوليو 1952 دستوران؛ الأول في عام 1923 والثاني في عام 1930، ويعتبر هذان الدستوران هما نتاج العمل الثوري والكفاح الوطني آنذاك، وهما نسخة مكررة لافارق بينهما في مجال بحثنا، هذا فيما يخص العفو عن العقوبة سوى في أرقام موادهما، لذا فسوف نقتصر الحديث عن دستور 1923 وحده باعتباره الأسبق في التأسيس الدستوري لهذا الحق، أما من الناحية القانونية فقد سبقه قانون العقوبات المصري الصادر عام 1904 في تأسيس الحق، وهو ما سوف نتناوله لاحقًا.
وقد تناول دستور عام 1923 حق العفو في ثلاث حالات مختلفة، فتناوله بصفه عامة في المادة (43)، كما تناول العفو الخاص بأعضاء البرلمان في المادة (72)، والعفو الشامل في المادة (152).
الحالة الأولى: العفو بصفة عامة:
ورد النص في المادة (43) على أن "الملك ينشئ ويمنح الرتب المدنية والعسكرية والنياشين وألقاب الشرف الأخرى، وله حق سك العملة تنفيذًا للقانون كما أن له حق العفو وتخفيض العقوبة".
وهذا النص قد ورد عامًا دون قيد أو شرط فقد منح الملك بمقتضاه السلطة المطلقة في العفو عن العقوبة أو تخفيضها.
الحالة الثانية: العفو عن الوزراء:
بعد أن أطلق الدستور سلطة الملك في العفو عن العقوبة عاد فقيدها في المادة (72) بقوله: "لا يجوز العفو عن الوزير المحكوم عليه من مجلس الأحكام المخصوص إلا بموافقة مجلس النواب".
وهو ما يتضح منه أن قرار العفو عن العقوبة المحكوم بها على الوزراء حسبما نصت عليه المادة مقيد بشرط وهو ضرورة موافقة مجلس النواب طالما أن الحكم الصادر بالعقاب على الوزير قد صدر من المجلس المخصوص.
ويرجع السبب في ذلك لما كفله الدستور في المادة (66) من سلطة المجلس وحده في اتهامهم بقوله "لمجلس النواب وحده حق اتهام الوزراء فيما يقع منهم من جرائم أثناء تأدية وظائفهم ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثى الآراء".. كما أن محاكمة الوزراء لاتكون إلا من خلال المجلس المخصوص.
وقد كان المجلس المخصوص يشكل من رئيس المحكمة الأهلية العليا بصفته رئيسا وستة عشر عضوا ثـمانية منهم من أعضاء مجلس الشيوخ يعينون بالقرعة وثـمانية من قضاة المحكمة الأهلية، شريطة أن يكونوا من المصريين بترتيب الأقدمية، وعند الضرورة يستكمل العدد من رؤساء المحاكم التي تليها ثم من قضاتها بترتيب الأقدمية كذلك.
وقد كان هذا المجلس يصدر أحكامه بأغلبية اثني عشر عضوًا، وكان يطبق في شأن الوزراء قانون العقوبات، على أن الدستور قد فتح المجال في المادة (68) لمساءلة الوزراء عن الجرائم التي لم يرد النص عليها في قانون العقوبات، وذلك بقوله: "وتبين في قانون خاص أحوال مسئولية الوزراء التي لم يتناولها قانون العقوبات".
الحالة الثالثة: العفو الشامل:
أكدت أحكام الدستور النص على العفو الشامل في المادة (152) بقولها: "العفو الشامل لا يكون إلا بقانون".
والعفو الشامل هو الذي يرفع صفة التجريم عن الفعل المرتكب، فيدخله في الأفعال المباحة بعدما كان من الأفعال المجرمة، وقد كرر دستور مصر الصادر عام 1930 نفس المواد الواردة في دستور 1923، حتى لا نكاد نلحظ ثـمة فارق بينها إلا في أرقامها.
ونخلص مما سبق أن دستور (1923) قد منح للملك حق العفو عن العقوبة في المادة (43)، ثم قيده في المادة (72) بأن جعل حق العفو عن الوزراء الصادر ضدهم أحكام أحد سلطات مجلس النواب وحده دون غيره، ثم عاد فقيد العفو الشامل في المادة (152) بضرورة صدور قانون، ومن المعلوم أن إصدار القوانين هو سلطة أصيلة للبرلمان، إلا أن الدساتير المصرية قد تواترت على كفالة حق اقتراح القوانين للرئيس الأعلى للبلاد، وهو ما يبيح للرئيس حق اقتراح قانون بالعفو الشامل على البرلمان، وسوف نتناول في المقال القادم حقبة ما بعد ثورة 1952.