رئيس التحرير
عصام كامل

مذكرات الفاجومي.. سنوات الملجأ


الشاعر ليس فقط قادرا على صياغة أفكاره بإلهام ربّاني، لكنه أيضًا صنيعة تجربته، وفي أشعار "أحمد فؤاد نجم" آلاف المصطلحات التي فكرت كثيرًا كيف صاغها واستخدمها، هذا طبعًا بعد معرفة معانيها إن كنت أجهلها.


لكن الحقيقة أن ذلك لم يكن غريبًا على من ترك التعليم واندمج في حياته الجديدة كعامل أنفار، يقول «اندمجت في حياتي الجديدة مع الأنفار، وبسرعة بقيت جزء من الألعاب اللي بيمارسوها في أوقات العمل والراحة وعشقت غنا البنات والولاد واحنا بنشتغل والحاجات البسيطة سبب عشقي لعزبة أبو نجم أنا كنت بخاف أروح المولد مارجعش»

ثم يكمل أول طريقه للملجأ فيقول «في يوم جمعة دخل خالي "حسين أبوسماحة" ابن عم أمي، وبعد السلامات بدأ الكلام بينهم يبقى وشوشة ويبصولي بإشفاق ويبتسموا لي بشكل ميطمنش، وفجأة ارتفع صوت خالي "حسين" بيقول لأمي، وحدي الله ابنك في حبة عيني من جوا هو مش "فؤاد أخو "عفاف"، بصيت على أمي لقيت وشها غرقان دموع من أنها مكنتش بتعيط، وقامت وخداني في حضنها ودخلت اوضتها وقلعتني هدومي ولبستني جلابية العيد اللي فات والصندل وقعدت تبص لي من فوق لتحت وباستني وقالت لي اسم النبي حارسك قمر».

«خدتني في حضنها وضمتني بشدة وفضلت تبكي بكا من غير صوت ومسحت دموعها وخرجنا وقالتلي أنت حتسافر مع خالك "حسين" على مدرسة الزقازيق، وسحبني خالي وخرجنا علشان أسافر لأول مرة وأسيب عزبة أبو نجم كنت ماشي ساكت، لا أنا موافق ولا رافض زي الدبيحة اللي رايحة المجزر، ولما سمعت غنى العيال عيط وقلت آه يا حبيبتي يامه لقيت خالي خدني في حضنه وفضل يطبطب عليا وهو بيقول خبر إيه يا هايف دانت حتروح المدرسة وتطلع افندي زي أبوك عزت»

لم يبكِ نجم من أي شيء قابله طوال حياته الفقيرة والبائسة حتى ذلك الوقت، لكنه بكى لفراق الوطن، العزبة، الاغتراب هو ما أنزل دموعه، يكمل «يوم السبت خدني ووصلنا للمدرسة ودخلنا أوضة الناظر، وخدوني طلعوني الدور التاني قلعوني هدومي ولبسوني بنطلون شورت وقميص كاكي وحجزوني في الدور التاني لحين بلوغي السن القانوني اللي يسمح لي بنزول المدرسة والورش، وكانت المدرسة هي ملجأ الأيتام بالزقازيق ومن سنة 1936 لـ 1945 وأنا واحد من غلمان الملجأ المية وخمسين»

كعادته تعامل الفاجومي بطبيعته، «روحت الورش بدأت بالأحذية وحققت فيها فشلا باهرا، وبعد كده روحت ورشة الترزية اللي كان مدرسها محمد أفندي الليثي وفضلت فيها لغاية ما اتخرجت من الملجأ وأنا مش فاهم حاجة»

«حاجتين كان نفسي أعملهم في الملجأ لكن كل الظروف اتجمعت وشكلت حاجز منعني، الحاجة الأولى، إني أشترك في فرقة الموسيقى النحاسية اللي كان بيقودها محمد أفندي ندا، التانية اشترك في فرقة الموسيقى الوترية اللي كان بيقودها عازف الكمان الموهوب محمود حنفي».

حين ينظر "أحمد فؤاد نجم" إلى سنوات الملجأ يجدها فارغة، هذا ما ظهر من حديثه فلم يسرد سوى ما حدث سياسيًا فقط «10 سنوات كانت مزدحمة بالأحداث العامة وسنة 1945 رجعت عزبة أبو نجم وكأنك يابوزيد ما غزيت واشتغلت كلاف»

بعد فترة من العمل في معسكرات الجيش الإنجليزي والنضال ضدهم قليلًا ثم المغادرة طبقًا لتعليمات حكومة «النحاس باشا» عاد "أحمد فؤاد نجم" الذي بدأ مشوار الترحال إلى مصر حتى قادته قدماه لشارع القصر العيني « تذكرت بعثة جريدة المصري ومكدبتش خبر سألت عنها وقالولي في القصر العيني، ورحت هناك وسألت على "محمود شكري" قالولي مسافر السويس، طب و"جمال الدين الطاهر" قالولي في مكتبه دخلت عليه الراجل عرفني، وقابلني بالأحضان وحكيت له خيبتي فضحك، وطلب لي قهوة وكتب لي جواب باسم "عبد الفتاح حسن" باشا وزير الأوقاف وقال لي حتروح تسلم الجواب ده في مكتب الوزير وتشوف حيعملوا معاك إيه وأنا مستنيك»

«كانت الساعة 11 بالليل فقلتله هستنى لبكره قالي لا روح دلوقتي، الوزارة فاتحة والوزير هناك، وكانت مقابلة الوزير مفاجأة، أنا سلمت الجواب لمدير مكتبه وفكرت امشي، وفوجئت ب"عبد الفتاح" باشا خارج لاستقبالي وبيقولي لي أهلًا بالبطل، وخدني وشربني قهوة، وقالي تحب تتوظف فين؟ قلت له أنا من الزقازيق، في 5 دقايق انكتب الجواب ووقع عليه الوزير، وصرف لي مرتب شهر كامل، وقال لي انت من النهاردة موظف في السكة الحديد في الزقازيق، ودي كانت بداية مرحلة.

الحلقة المقبلة.. أول طريق لأرميدان
الجريدة الرسمية