أسطول سيارات المسؤولين!!
فيما تُجبر الحكومة فقراء المصريين على تحمُّل ما لا يطيقون، وتجلدهم بكرباج الغلاء على ظهورهم، فإنها لا تجدُ حرَجًا في أن تنفق 20 مليار جنيه سنويًا، على أسطول سيارات مسؤوليها بمستوياتهم المختلفة!
الرقمُ يبدو صادمًا ومؤلمًا، ولكنَّ مصدرَه هو المُقترَحُ الذي تقدَّم به النائبُ "ماجد طوبيا" إلى مجلس النواب، وطالبَ فيه بسحب السيارات المُخصصة للمسؤولين الحكوميين؛ ترشيدًا للإنفاق، لا سيما أنها تُرهق موازنة الدولة بما تستهلكه من صيانة وإصلاح ووقود بطبيعة الحال، منوهًا إلى أن التكلفة الإجمالية السنوية لأسطول السيارات بالمصالح الحكومية تصل إلى 20 مليار جنيه!!
حكوماتُ ما بعد ثورة 30 يونيو، تحدثتْ في مناسباتٍ عديدةٍ عن ضرورة ترشيد الإنفاق في كل شيء، وزعمت أنها بدأت بنفسها، حتى إن إحداها قالت يومًا: إنها منعت المياه المعدنية من دواوينها، ولكن يبدو أن مثل هذه التصريحاتِ خادعة كالعادة، إذا ثبتت صحة الرقم الذي ذكره النائبُ.
ما يؤكدُ أن هناك فوضى عارمة في ملف سيارات المصالح الحكومية، الفرمانُ الذي اتخذه وزير النقل "كامل الوزير" مؤخرًا بالاكتفاء بسيارة واحدة لقيادات الوزارة، ما يعنى أن هناك مسؤولين كانوا يحظون بمثنى وثلاثٍ ورُباع من سيارات المال العام!!
إنْ كان هذا حدثَ من قبلُ، ولا يزالُ يحدثُ في وزارة النقل وغيرها من الوزارات والمصالح والجهات التابعة لها، فإنه سَفَهٌ وجنونٌ، يجبُ وقفه فورًا ترشيدًا للإنفاق، وتوجيه المليارات المُهدرة على راحة الكبار ورفاهيتهم إلى ملفاتٍ وبنودٍ أكثرَ أهمية، مثل: الصحة والتعليم؛ وحتى تكونَ حكومة الدكتور "مصطفى مدبولى" قدوة لشعبها، وللحكومات المُتعاقبة من بعدها.
تخصيصُ سياراتٍ لكبار الموظفين الحكوميين ظاهرة مصرية أصيلة، لا تتكررُ كثيرًا في معظم دول العالم، وتعكس في الوقت ذاته استغلالًا سيئًا للنفوذ، وإهدارًا مُتعمدًا للمال العام.
الغريبُ.. أنَّ السياراتِ الحكومية لا يتم تخصيصُها إلا لكبار المسؤولين، أي من يحصلون على رواتبَ وأجورٍ متميزة تُمكنهم من الاستعانة بوسائل نقل أخرى على نفقاتهم الشخصية دون أن تُرهقهم من أمرهم عُسْرًا، أما مَنْ يحصلون على مرتباتٍ هزيلةٍ، فعليهم أن يتحمَّلوا مشقة ركوب الأتوبيسات ومترو الأنفاق، وكلاهما لم تعدْ تذاكره في متناول متوسطى الدخل.. هذا منطقٌ ظالمٌ ومعكوسٌ بلا أدنى شك، ويجب تغييره.
كما أنَّ السياراتِ الحكومية لا يتم استخدامُها في الإطار المُحدد لها فقط، بل إنها تتعرضُ لسوء استخدام بالغ ومُهين، سواءٌ من المسئول الكبير الذي يأمر سائقه بقضاء مشاوير أسرته يوميًا، وما أكثرَها، من شراء الخضراوات من السوق، مرورًا بإحضار "البيه الصغير" من المدرسة أو الجامعة، وليسَ انتهاءً بتوصيل الهانم إلى الكوافير!
السائقُ أيضًا.. "لا بدّ أن يناله من الحب جانب"، ويستخدم السيارة الحكومية البائسة في قضاء حوائجه، فضلًا عن عدم الاهتمام بها خلال القيادة أو صيانتها في المواعيد المُحددة، باعتبارها "مال سايب"، و"المال السايب يعلم السرقة"، و"إن خرب بيت أبوك خُد لك منه قالب".. وأشياء أخرى، وهو ما يبرر الرقمَ الخرافىَّ الذي وردَ في مُقترح النائب "ماجد طوبيا".
قبل 9 أعوام، قامتْ الدنيا ولم تقعدْ؛ بسبب القضية المعروفة إعلاميًا بـ"رشاوى مرسيدس"، عندما أعلنت محكمة أمريكية أن شركة "دايملر بنز" الأمريكية لإنتاج السيارات اعترفت بدفع رشاوى لموظفين مصريين كبار، لتسهيل شراء سيارات ومُحركات وفتح فرص للتجارة بين عامي 1998 و2008، ما دفع الحكومة يومئذ إلى التأكيد على أن خُطة استبدال أسطول السيارات الحكومية تتضمن ضوابط مركزية للسيارات المُصنعة محليًا، وتراعى اقتصاديات التشغيل ولا تزيد سعتها اللترية على 1600 سي سي، وليس من بينها "المرسيدس"، خاصة أنها فاخرة، وشراؤها يتعارض مع ترشيد الإنفاق الحكومى!!
ولكن يبدو أنَّ هذا الكلامَ كان أيضًا للاستهلاك الإعلامي الخادع والمُخادع، وللخروج من المأزق، أو أنه تغيَّر وتبدَّل مع تعاقب السنين، مُتحديًا ثورتين متعاقبتين اتخذتا من "العدالة الاجتماعية" شعارًا لهما، ومُتجاهلًا منعطفاتٍ صعبةً، عاشها المصريون خلالَ السنوات الماضية.. ولا يزالونَ.
إنَّ إهدار 20 مليار جنيه سنويًا على سيارات "السادة البهوات"، أو عُشر هذا الرقم، على سيارات المسؤولين الحكوميين، في الوقت الذي يتمُّ فيه حرمان قطاعات كبيرة من الحصول على الدعم الحكومى وإلغاء بطاقات التموين الخاصة بها، وتجريسهم على رؤوس الأشهاد، ورفع أسعار الخدمات والرسوم الحكومية بلا وعى مثل: فواتير الكهرباء والمياه والغاز واستخراج التراخيص وتجديدها، يعكسُ عوارًا كبيرًا في طريقة تفكير الحكومة ونظرتها ظالمة للفقراء والمعدومين.
على الحكومة، إن كانت جادَّة في إصلاحها الاقتصادى، الذي يريدُ وزير المالية أن ينقله إلى الدول الأفريقية المجاورة، أن تُعيدَ ترتيب أوراقها، وتوقف مثلَ هذه الإهدارات المليارية السفيهة، سواء في أسطول السيارات الحكومية، أو في غيره، سعيًا إلى التخفيف عن المصريين الذين تحملوا خلال السنوات الماضية الكثير والكثير.
أما إذا تجاهلتْ الحكومة وتعامتْ وتعالتْ على هذا الكلام، فيجبُ عليها فورًا أن تتوقف عن الحديث عما تسميه إصلاحًا اقتصاديًا أو دعمًا للفقراء والغلابة، أو تخبرهم بأنها تعمل فقط على رفاهية كبار مسؤوليها باعتبارهم "الخير والبركة"، أما المُعدمون ومن يعانقونَ الفقر، ويعيشون تحت خطِّهِ وفى أعماقه، فعليهم أنْ ينفذوا وصية "مارى أنطوانيت" بأن "ياكلوا جاتوه"!!