رئيس التحرير
عصام كامل

"جاكلين" و"جول".. زفاف في السماء!


الأساطير الكبيرة تصنعها أحداث كبيرة.. والأحداث الكبيرة يصنعها الكبار ممن اختاروا طريقهم بشروط مختلفة وحددوا معالمه بملامح خاصة، لا يقدر عليها إلا من اختاره القدر ليسجل في التاريخ دورا ويكتب فيه سطورا صاغتها حروف من نور..


وبين اللاذقية وبورسعيد حدثت الأسطورة بسطورها كاملة.. هناك وصل الخبر الصاعقة.. "جول" استشهد!، هكذا كان النبأ.. وهكذا كانت الصدمة وهكذا زلزل الخبر أرجاء المكان.. وبعدها لم تتوقف شلالات الدموع حتى كتب القدر أمس نهاية لها..

كانت أصوات المدافع والقنابل لا تتوقف فوق بورسعيد.. عناد الشعب المصري وصموده كان كفيلا أن يذهب الصواب من عقول الفرنسيين.. ولم يكن من حل إلا بإرسال المدمرة "جان بار" العملاقة الممتدة مئات الأمتار.. وقف هو أمام قائده "جمال الدسوقي" يعطي التحية ويستأذن في المشاركة في العمليات..

يعتذر القائد فلا يريد أن يجرح مشاعره.. يدرك هو أن التعليمات تمنع غير المصريين من المشاركة في العمليات الحربية.. يحاول أن يشرح له أن سوريا.. أي عربي.. أي كأنه مصري.. حتى قال بالحرف: "عندما أسير في شوارع الإسكندرية كأني في اللاذقية تماما" وبعد الرجاء الثالث يوافق القائد بعد أن صدرت تعليمات "جمال عبد الناصر" بالتصدي للمدمرة..

أكثر من محاولة للتصدي لها.. تفشل.. "جول جمال" ينطلق بمحاولته على متن زورق حربي ومعه جندي مصر واخر سوري أيضا اسمه "نخلة سكاف" لم يحظ بالتكريم المستحق.. يقترب من المدمرة ويختفي ويعتقد البعض أن "جول جمال" هرب من المعركة، إلا أنه وبشكل مفاجئ يظهر من بعيد وبأقصى سرعة يتجه إلى مقدمة المدمرة في منطقة لا تستطيع مدافعها التعامل منها، ويصطدم بها ويفجرها وتغرق بالفعل وعليها عشرات الضباط والجنود الفرنسيين.. ويقال إنه ورفاقه بقوا في الزورف واستشهدوا، ويقول آخرون إنهم ألقوا بأنفسهم في الأمتار الأخيرة لكن رشاشات الفرنسيين وصلت إليهم!

رحل البطل الذي تخرج في مايو بتفوق وكان أول دفعته، وحصل على ساعة من "جمال عبد الناصر" الذي عاد وكرمه بعد استشهاده.. كان القدر أراد ألا يعود إلى سوريا عقب تخرجه ليلقي وجه ربه بطلا شهيدا دفاعا عن مصر..

كانت شلالات الدموع من أسرة "جول جمال" ومعهم خطيبته "جاكلين".. التي أقسمت ألا تكون لغيره.. كانت تخرج للشاطئ تخاطب روحه تنظر من ساحل اللاذقية في اتجاه الإسكندرية حيث درس، وإلى بورسعيد حيث استشهد.. تعتقد بعودته مرة وأن روحه حولها مرات.. تطالع خطاباته ووعود الإجازة بأن الزفاف سيكون بعد الاطمئنان على مصر.. وأنهما سيعودان معا ليريها الإسكندرية..

لكن للقدر تصاريفه.. وكلمته الأخيرة.. ويتحول "جول جمال" إلى أسطورة مصرية سورية كبيرة وإليى "سليمان الحلبي الجديد" ـ لا يتوقفون عن إشعال الفتنة بين شعبينا وشعبنا العربي كله كل لحظة، ويقع في الفخ البلهاء والجهلاء ـ ويتحدث الساسة ويكتب الشعراء ويقول عمر الفرا الشاعر الكبير:

"فارس..
مثل الليل... العابس
فارس..
مثل الفل
الناعس

فارس...
مثل الصخر اليابس
نزل الساحة.. صال وجال

وقف حيا.. العلم العربي
وقدم اسمه:
طالب ضابط بالبحرية
عربي.. عربي
الاسم الكامل:
"جول جمال "

وتبر "جاكلين" بالقسم.. ولا تكون إلا لـ"جول".. وبالأمس لحقت به إلى دار الحق.. وأقيمت الصلاة في الكنيسة الأرثوذكسية باللاذقية.. الكنيسة عينها التي صلوا فيها قبل 63 عاما كاملة على روح "جول جمال".. وبعد كل هذه السنوات تلتقي الأرواح عند ربها.. وما تأجل في الأرض يكتمل هناك.. إنه زفاف في السماء!
وداعا "جاكلين بيطار"!
الجريدة الرسمية