رأيت ليلة أسري بي
كل عام ونحن جميعا بألف خير، تحتفل الأمة الإسلامية كل عام بذكرى الإسراء والمعراج، وهي رحلة أرضية سماوية بحسب البعض، ورحلتان، إحداهما أرضية والثانية سماوية بحسب البعض الآخر، وقد جاءت تسرية للرسول صلى الله عليه وسلم في عام الحزن، بعدما فقد أول من آمن به من النساء ودافع عنه بكل ما أوتي من مال وجاه، وهي زوجته أم المؤمنين "خديجة بنت خويلد" رضي الله عنها.
كما فقد داعمه وسنده الذي كان يحتمي به من قريش، والذي وقف ضدها حينما طلبت منه تسليمه له وهو عمه "أبو طالب"، وقد قال صلى الله عليه وسلم «ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب»، كما فشلت دعوته في الطائف التي ذهب إليها طامعا في إيمان أهلها إلا أنه ناله من أهلها ما ناله هناك..
ونزل عليه الملك الأمين وقال قولته المشهورة "لو أردت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت"، فكان رده صلى الله عليه وسلم: "لا.. عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله"، وقد تحققت نبوته ودخل الناس أفواجا في دين الله، وقد حفلت كتب السنة المطهرة والسيرة العطرة بالكثير من مشاهد الإسراء والمعراج، ورويت عن كثير من صحابته صلى الله عليه وسلم حتى بلغت حد التواتر في مجموعها.
وأغلب الروايات اتفقت على أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت السيدة "أم هانئ" بنت عمه أبي طالب، إذ فرِج سقف البيت وهو بين النائم واليقظان، ونزل منه ثلاثةٌ من الملائكة الأطهار فاحتمَلوه حتى أتَوا به المسجد الحرام، فشق جبريل عليه السلام صدره الشريف، وأتى بطست من ذهب، مملوء بماء زمزم، فغسَل به قلبه ثم أفرغ في قلبه ينابيع الحكمة والإيمان.
ثم جيء له بالبراق - وهو خلق من مخلوقات الله العجيبة على صورة حيوان، أسرع من البرق في المسير، يضع قدمه عند منتهى بصَرِه - فركبه صلى الله عليه وسلم، وجبريل الأمين أخذ بزِمامه، تطوى بهما الأرض، وكانت له ثلاث وقفات عند طيبة المدينة المنورة، ثم عند طُور سيناء، وثالثةٌ عند بيت لحم، وقد روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: أصبتَ الفطرة).
ورَوى ابن جَرير في تفسيره، والبيهقي، والحاكم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قومٍ تقرض ألسنتهم وشِفاههم بمقاريض من حديد؛ كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال:(ما هذا يا جبريل؟)، فقال:(هؤلاء هم خطباء الفتنة؛ يقولون ما لا يفعلون).
وجاء في حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على خَشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال: (ما هذا يا جبريل؟) قال: (هذا مثل أقوامٍ مِن أمتك يقعدون على الطريق فيَقطعونه)، ثم تلا: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ... ﴾ (الأعراف: 86).
وروى ابن جرير وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قوم يَزرعون في يومٍ ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا جبريل ما هذا؟) قال: (هؤلاء المجاهدون في سبيل الله؛ تضاعَف لهم الحسَنةُ بسَبعِمائة ضعف)؛ ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (سبأ: 39))
وجاء في رواية ابن جَرير عن أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ليلة أُسري به بشيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد! فلما سأل جبريلَ عنه قال: (وأما الذي أراد أن تَميل إليه فذاك عدو الله إبليس؛ أراد أن تَميل إليه).
وجاء في رواية ابن ماجة وأحمد عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أسفل منه -وهو في السماء الدنيا– رهجا ودخانا وأصواتا، فقال: (من هؤلاء يا جبريل؟) قال: (هذه الشياطين يحومون على أعينِ بني آدم؛ لا يتفكرون في خلق السموات والأرض، ولولا ذلك لرأَوا العجائب).
وروى البيهقي وغيره من حديث أنسِ بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في مسراه عجوزا على جانب الطريق، فقال: ((ما هذا يا جبريل؟) فقال: (أما العجوز التي قد رأيتَ على جانب الطريق فلم يبقَ مِن عمر الدنيا إلا كما بَقي من عمرِ تلك العجوز).
وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه (رأى امرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله، تقول: يا محمد انظرني أسألك، فلم يجبها ولم يقم عليها. ويقول جبريل: (تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتَها وأقمتَ عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة).
وجاء في رواية البهيقي وابن جرير عن أبي سعيد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها فقال: (ما هذا يا جبريل؟) قال: (هذا الرجل مِن أمتك، يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يزيد عليها ويريد أن يحمل عليها، فلا يستطيع ذلك).
وجاء في رواية البيهقي وابن جرير عن أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قومٍ ترضخ رؤوسهم بالصخرة كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: (ما هؤلاء يا جبريل؟) قال: (هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة).
وجاء في رواية البيهقي وابن جَرير عن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قومٍ على أقبالهم رِقاع وعلى أدبارهم رِقاع، يَسرَحون كما تسرح الإبل والغنم، ويأكلون الضريع والزقوم، ورضف جهنم وحجارتها! قال: (فما هؤلاء يا جبريل؟) قال: (هؤلاء الذي لا يؤدون صدَقات أموالهم، وما ظلَمَهم الله تعالى شيئا، وما الله بظلام للعبيد).