رئيس التحرير
عصام كامل

من داليدا وصوفيا لورين إلى جاك شيراك.. حكايات أمير فرنسا الأزرق

فيتو

مثله مثل فرنسا.. السنوات التي مرت لم تزده إلا جمالًا ورونقًا.. لا يزال يحتفظ بمظهره المتأنق على الدوام، كعادته.. لا يزال حريصًا على ارتداء بدلته المميزة، ذات اللون الأزرق، إلى جانب حرصه على توحيد لون النظارة والحذاء، وعندما يطمئن إلى أن كل شيء كما اعتاد أن يكون يخرج من منزله موليًا وجهه ناحية المسرح والملهى الذي يمتلكه في العاصمة الفرنسية، باريس، لتمر دقائق عدة، يصعد بعدها إلى خشبة المسرح ويطل على زبائنه وقد رسم على وجهه ابتسامته العريضة المشرقة على الدوام.. إنه الفرنسي «ميشو» صاحب الـ 87 عامًا.




«ميشو» الذي تحول بمرور السنوات إلى علامة بارزة من علامات «عاصمة النور»، يحرص على افتتاح فقرات مسرحه الخاص بكلمات مثل «أرحب بكم وأمل أن تستمتعون بعشائكم»، وأحيانًا يمازح زبائنه بعبارات مثل «إذا كان اللحم جيدًا، فاعلموا أنني نمت لدى الجزار منذ البارحة حتى أحضر لكم لحمًا ذا جودة عالية»، ويختتم كلماته قائلا: «شكرًا على حضوركم، تسببتم لي في فرحة لا توصف» وكالعادة تمتلئ القاعة بأصوات تصفيق منقطع النظير وردود مثل :«أمن من يجعلنا سعداء يا ميشو».

المسرح الباريسي الشهير الذي يمتلكه «ميشو» يقع في حي مونمارت، وهو حي معروف بالمسارح والملاهي الليلية، يضع في كل ركن من أركانه مجموعة رسومات شهيرة لـ«بيكاسو» و«أنري تولوز لوترك»، وقد نجح على مدار ستة عقود في جعل حي مونمارت مقصدًا لكبار زوار باريس بسبب شهرته منقطعة النظير داخل فرنسا، لما له من تاريخ فني كونه من خلال استضافة نجوم كبار مثل المطربة الأوبرالية ماريا كلاس، والمغنية المصرية الإيطالية داليدا، وقائمة متعددة من نجمات الفن في ذلك العصر.



رغم إصابة «ميشو» مالك المسرح بمرض سرطان القولون إلا أنه لا يزال يحرص على المشي في طرقات «مونمارت» المرصوفة بالحصى، ليتلقى كلمات الثناء على الحالة الفنية الراقية التي نجح في الحفاظ عليها بعد مرور سنوات جعلت له مكانة مميزة في قلوب الآلاف من زائري الحي.


وحسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، فإنه بمجرد ظهور «ميشو» بزيه الرسمي المعتاد باللون الأزرق في شوارع فرنسا يمكن للمارة أن يتعرفوا عليه، خاصة وأنه ظهر في عدة برامج تليفزيونية، وتمكن من خلال كاريزمته الخاصة من جذب المشاهدين إليه والحرص على زيارته للتمتع بقضاء بعض الوقت لديه، وفي حوار له دخل شقته الفارهة المزينة بالكامل باللون الأزرق داخل الحي الباريسي، قال «ميشو»: «يسمونني أمير مونمارت الأزرق»، ويستكمل بكلمات تمتلئ بالفخر والإعزاز مصحوبة بابتسامة هادئة : «هنا.. أنا أعامل كقديس، أتخصص في بعث السعادة في نفوس الشعب الفرنسي»، وفي حديثه عن بداية نشاطه في مونمارت، أوضح مالك المسرح الأشهر: «كان الحي هنا عشوائيا رخيصا مليئًا بالمتسولين والطبقة العاملة المختلطة عرقيا، كما شكل موقعا للكتاب والأدباء والفنانين الباحثين عن فرصة، فشكل المكان موقعا مميزا لانطلاق مسرحي الخاص، الذي استطعت من خلاله تغيير أهمية موقع حي مونمارت على خريطة فرنسا»، ومع مرور الوقت وبعد أن ذاع صيت مسرح «ميشو»، امتلأ الحي الباريسي بمظاهر الترف من خلال كبار الشخصيات التي حرصت على الحضور للمسرح والاستمتاع بالحالة الفنية النادرة التي يتمتع بها، كما باتت محطة لزيارة السياح الذين يحرصون على التقاط الصور داخل المسرح".



«ميشو» صاحب الشخصية الساحرة، يواظب على بعض العادات التي تتعلق بجذوره وأكسبته العديد من المعجبين المخلصين في الحي، منها إقامة مأدبة غداء مجانية مرة كل شهر، لكبار السن والسكان المحليين الذين ارتبط بعلاقات وثيقة بهم على مدار السنوات الطويلة التي قضاها بينهم، كما يستضيف «ميشو» في مسرحه عددا من كبار السياسيين والمطربين والممثلين ولاعبي الكرة الذين ارتبطوا بصداقة معه منذ سنوات، ولعل أبرزهم الممثلة العالمية صوفيا لورين والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، الذي منحه وسام الشرف من الدرجة الأولى، وهو أعلى وسام استحقاق في البلاد.



ألقت السيدة الأولى الفرنسية السابقة برناديت شيراك، صديقته الحميمة، اللوم عليه بسبب عادة الإسراف في الشراب، والتي دأب عليها منذ صغره، حيث إنه في منزله يمتلك دولابا من البلور الأزرق يمتلئ بزجاجات الشمبانيا، يشرب منها زجاجتين يوميا، ولكنه يعلق على الأمر بقوله: «أنا لا أدخن ولا أتعاطى المخدرات، على الأقل اتركوا لي متعة الشمبانيا».



الكاتب الفرنسي الشهير فرانسوا سوستر، المؤلف لسيرة حياة «ميشو» يقول: إنه مؤسسة فرنسية.. لا يمكن لأحد في فرنسا أن يدير مسرحه الخاص لأكثر من 60 عاما، فقد بدأ من لا شيء ونجح في الوصول لمجد منقطع النظير ومكانة لم يصل إليها غيره في قلوب الفرنسيين، ويكمل: ميشو ميشيل كاتي ولد في يونيو 1931م في مدينة إميان الصناعية شمال فرنسا برفقة والدته وجدته، وانتقل بعدها إلى باريس واستقر في شارع الشهداء وعمل في مقهي صغير وصادق مالكته مدام هوجيت واشترى منها المقهى وحوله إلى صالة عشاء وعرض فيه بعض الفقرات الراقصة، ويقول عن نفسه (لقد كنت أطبخ وأنظف في بداية حياتي حتى وصلت لما أنا عليه الآن).



«ميشو» قضى سنوات قليلة في الصالة التي أصبحت تدر عليه المال بغزارة، نظرا للسمعة التي اكتسبها في وقت قليل، حتى تمكن من ادخار الأموال اللازمة لشراء مسرحه بمونمارت، ليصبح بعدها «صانع البهجة للفرنسيين».
الجريدة الرسمية