إنهم يغتالون الجَمال !
لا أدري إن كنا تعودنا على رؤية القبح حولنا.. في الشوارع وواجهات المحال، ودهان العمارات حتى وصل إلى الأزياء التي نرتديها.. أصبح كل شيء ينم عن قبح في الذوق، ولم يعد للتذوق معني، ومن كثرة ما شاهدناه من قبح أصبح الجمال شحيحا، فنادرا ما تري شيئا يأخذك إلى الجمال والرقي، نادرا ما نري شيئا فينطق اللسان بعد رؤيته ويقول.. الله على الجمال.. سبحان من صور وأبدع..
القبح أضعف البصر وأصابنا بالعمي فلم يعد يلفت نظرنا القبح والتشوية الذي أصاب كل شيء بعد أن كنا نأنف من رؤيته.. كان القبح هو الاستثناء.. الآن صار هو القاعدة والاستثناء أن تري شيئا جميلا منضبطا!
في كثير من الدول التي بلا تاريخ أو حضارة يبحثون عن أي شيء يصنع لهم تاريخ، ويدفعون الملايين للحصول على تمثال أو لوحة فنية يضعوها في متاحف لتكون جزءا من عناصر قوتهم الناعمة، وفي كثير من الدول أيضا يبحثون عن فنانين ورسامين ونحاتين ليفخروا بهم وبما ينتجون من فن، والحديث عن مصر في هذا الخصوص لا ينتهي بانتهاء الوقت لما تضمه من تراث تكون منذ آلاف السنين، وحضارات متعاقبة جعلت مصر من أول وأكثر دول العالم تنوعا فكانت فجر الضمير للعالم كله.
في الآونة الأخيرة عندما زحف القبح على كل شيء إلا ما رحم ربي.. يبدو أننا فقدنا الإحساس بالجمال، وفقدنا الإحساس بالمسئولية لدرجة أن المسئول يمر ذهابا وإيابا أمام أثر أو تمثال أو عمل فني ولا يلفت نظرة حجم القبح الذي أصاب هذا العمل الفني، وكم التشويه الذي حدث بفعل فاعل وتحت سمع وبصر المسئول وبتكليف منه!
هذا بمناسبة مسلسل التشوية الحاصل لتماثيل مصرية هي رموز في هذا البلد، والحديث عن عدد التماثيل التي تم تشويهها –مثل تماثيل الخديو إسماعيل ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعبد الوهاب.. وغيرهم وكلها رموز وقامات مصرية كبيرة- هو حديث فيه من الوجع والحسرة الكثير لأكثر من سبب..
الأول هو شكل التشوية في حد ذاته، والثاني هو إهانة الرمز الذي تم تشويه تمثاله، والثالث هو نظرة الخارج لنا وأننا لا نعرف كيف نعتني بتراثنا أو نحافظ عليه، والرابع وهو الأهم أن هذا التشوية صار يتكرر كثيرا وهذا يعني غياب المسئولية والحساب، ووجود فساد كبير في عمليات إسناد تجميل التماثيل أو صيانتها بتكليف غير المتخصصين في هذا الأمر..
كانت آخر حلقة في مسلسل تشويه تراث مصر –وأظن أنها لن تكون الأخيرة- بقلة الخبرة وعشوائية التلوين هو تمثال الفلاحة المصرية، وأظن أن الجميع تابع شكل التشويه البائس الذي حدث، المدهش أن التمثال موجود في مدخل مدينة الحوامدية التابعة لمحافظة الجيزة، ومن الطبيعي أن رئيس المدينة وكل مسئولي الإدارة المحلية يستخدمون هذا الطريق، وبالقطع شاهدوا التمثال قبل وأثناء وبعد عملية التجديد، ومع ذلك لم يلفت انتباه أحد منهم هذا التشويه الذي حدث، بل ربما لم يتذكر أحد منهم حال التمثال أو شكله قبل التجديد، ولم يَصدم أحد منهم شكل أحمر الشفايف على وجه الفلاحة المصرية، ولا ركبتها ذهبية العارية!
في تقديري أن غياب المتابعة والمسئولية وانعدام الحس الجمالي عند المسئولين هو أخطر من مجرد تشويه التمثال وأن عدم التحرك لتصحيح الوضع وإزالة هذا القبح لم يحدث إلا بعد تناوله على السوشيال ميديا ووسائل الإعلام هو خطر أكبر، وأن الترهل والبيروقراطية التي تكلم بها المسئولين إلى الإعلام ومحاولة إلصاق المسئولية بغيرهم هو أمر يدعو للشفقة على هذا الوطن وعلي هويته وتراثه وتاريخه.. هؤلاء يغتالون الجَمال بدم بارد، ويشوهون التراث عن عمد، ويجعلون منا غير أمناء على تاريخنا!