نقد الثورات.. وتزييف التاريخ
الثوراتُ.. مُنجز بشرى، يحتمل الخطأ ويحتمل الصوابَ، ومن ثمَّ.. فإنَّ الثورات ليست أعمالًا مُقدسة أمرتْ بها السماءُ لا تقبلُ النقدَ والتقييمَ، وتنسخُ ما قبلها وتلغيه كأنه لم يكنْ. نقدُ الثورات.. فريضة غائبة في التاريخ المصرى، وتسببَ غيابُها في تشويه الحقائق، وتقزيم عمالقة، وعملقة أقزام، ورفع أقوام وإذلال آخرين.
منذ "ثورة عرابى" 1882، وحتى ثورتى 2011، و2013، شهد التاريخُ المصرىُّ محطاتٍ متعددة وتحولاتٍ جذرية في أنظمة الحكم وأحوال المصريين، غيرَ أنَّ القارئ في الكتب والمراجع التي أرَّختْ وتؤرخُ للثورات المصرية والمراقب للأحداث يكتشفُ عجبًا، إذ تتعددُ الرواياتُ لكل واقعة، وتتنوعُ الحكاياتُ لكلِّ حادثة، فلا تكاد تعرفُ حقًا من باطلٍ، وصدقًا من كذبٍ.
المؤرخون لا يتجردونَ في تأريخهم، ولكنهم مُنحازون ومُؤدلجون ولا يكتبون إلا ما يُرضون به الحكام، ولأنَّ التاريخَ يكتبُه المنتصرون، لذا فإنه ليس صادقًا في معظم الأحوال.
ثورة 1919 التي احتفلت مصر بمئويتها مؤخرًا دليل حى على ذلك، فهناك من يرفع قائدَها "سعد زغلول" إلى مصاف كبار الزعماء والقادة التاريخيين، وهناك من يصمُه بكل سوء، وينعتُه بكل قبح، ويزعمُ أنه امتطى الثورة بالصدفة وتخلص من جميع رفاقه، وهناك أيضًا من يتهمُ الثورة وأصحابها بالفشل الذريع.
الذين استفادوا من ثورة 23 يوليو 1952 ينظرون إلى "جمال عبد الناصر" باعتباره الزعيم المُلهم الأسطورة، والذين أضيروا من الثورة يهبطون به وبها إلى أسفل سافلين، ما يعنى أن المصلحة الشخصية، ولا شيء غيرها، هي الحكم، وهذا غبنٌ واضحٌ وصريحٌ.
هذا التضاربُ في سجلات التاريخ المصرى، يستحيلُ أن تصلَ معه إلى قناعة راسخة بشأن أي واقعة أو شخصية تاريخية، فلا يمكنك – مثلًا- أن تقطع بأن "عرابى" كان زعيمًا أم جبانًا، أو أن "سعد زغلول" كان ثوريًا أم "خمورجيًا"، أو أن الملك "فاروق" كان وطنيًا أم فاسدًا، أو أن "عبد الناصر" كان زعيمًا أو مجرد أكذوبة، أو أن "السادات" كان رجل الحرب والسلام، أم خائنًا مُفرطًا مُتساهلًا.
أو أن "مبارك" كان شريفًا أم لصًَّا، حتى أن وسائل الإعلام درجت منذ ثورة 25 يناير 2011 على عدم ذكر اسمه في جميع المناسبات التي كان طرفًا فيها، مثل: ذكرى "استرداد طابا" التي احتلفتْ مصرُ بذكراها يوم الثلاثاء الماضى، وهذا -في حد ذاته- عبث، فالثورات التي تندلعُ من أجل قيم وفضائل حميدة لا يصحُّ أن تقع في فخ التكذيب والتضليل، ولا أن تشوبها روح الانتقام والرغبة في تصفية الحسابات، لأنَّ هذا ينالُ منها ويضربُها في العُمق.
وما كان ذلك كلُّه ليحدثَ لولا الرغبةُ في خلطِ الأوراق وتزييفِ الحقائق، لإظهار المُنتصر بطلًا مغوارًا والخاسر شيطانًا رجيمًا، فالتاريخُ يجبُ أنْ يكون عاقلًا ومُنصفًا، وليس مجنونًا مُتحيزًا، والمؤرخون يجب أن يكونوا صادقين ومتجردين من النوايا السيئة والحسابات الضيقة، لأنَّ الزمنَ لا يثبتُ على حال، والأيام دوَّارة، وكما تدينُ تُدان.
لقد نشأتْ أجيال وشاختْ على أن "فاروق" كان شخصًا فاسدًا لاهيًا مُدمناُ للخمر والقمار، وعندما أرادتْ الكاتبة "لميس جابر" ردَّ هذه الاتهامات عنه وتصحيح صورته- من وجهة نظرها وبما تمتلكه من أدلة وبراهينَ- قامتْ الدنيا عليها ولم تقعدْ، ونالها الكثيرُ من الغمز واللمز، ما يضعنا أمام إشكالية مهمة وهى أن عقولنا ترفض بشدة تصحيح ما سكنها وعشش فيها من أكاذيبَ، حتى إذا ثبت أنها أكاذيبُ!
إنَّ هناك حالة مُعقدة من الوهم والتدليس والتزييف تكتنفُ تاريخ مصر المعاصر بأكمله، وبجميع مراحله دونَ استثناء، ربما تكونُ قد تمت بتوجيهات عُليا، وشارك فيها مؤرخون يفتقدون إلى فضيلة الصدق، ولم ينتبهوا إلى تداعيات ما يقترفونه بحق الضمير الإنسانى.
من المؤسف.. ألا يكون لدينا مؤرخون يكتبون الحقيقة ويذكرون الأحداثَ وينصفون الأشخاص بكل تجرُّدٍ، فيذكرونَ المحاسنَ كما يرصدون المساوئ، ومن المؤسف أيضًا أن يجاريهم في الكذب والافتراء الأكاديميون والمُتخصصون، سواء من أساتذة التاريخ أو العلوم السياسية، فضلًا عن السياسيين الذين يرتضون مثلَ هذه الأباطيل.
وعودًا على بدءٍ.. فإنَّ نقدَ الثورات من جانب مؤرخين ثقات وأكاديميين مُنصفين بناءً على أسس وضوابط ومعاييرَ سليمة وجادة ومُنصفة وضمائرَ حيَّة ليس جريمة يُعاقبُ عليها القانونُ. كما أن نقدَ الثوراتِ نقدًا موضوعيًا يُسقط الهالات الكاذبة والقداسات الزائفة عن سارقيها ولصوصها، ويساعدُ في كتابة التاريخ بصدقٍ، ويضعُ الأمورَ في نصابها الصحيح، فلا يصحُّ أن يُنسجَ التاريخُ بالأكاذيب، وتسكنه الأساطيرُ وتملؤه الأباطيلُ وتعششُ فيه الأوهامُ.