د. محمود محمد على يكتب: ميونيخ من المؤامرات إلى المؤتمرات
تتمتع كل من ألمانيا ومصر بثقل سياسي لا يستهان به في شتى المحافل الدولية. هذا الثقل فرض نفسه بعدما صارت ألمانيا الموحدة بمثابة المحرك الرئيس للوحدة الأوروبية، وإحدى القوى الاقتصادية الكبرى في العالم.
وقد تجلى ذلك بوضوح خلال أعمال الدورة الــ 55 من مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية، والتي عقدت منتصف الشهر الماضي بمدينة ميونيخ، وشارك فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وكان أول المتحدثين في الجلسة الرئيسية.
وفي كلمته كأول رئيس أفريقي يحضر هذه الجلسة الافتتاحية، ويلقي كلمة فيها من خارج القارة الأوروبية، طرح رؤية مصر لسبل التواصل إلى حلول سياسية لمختلف الأزمات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط في ضوء سياسة مصر الخارجية، والتي تستند إلى الحفاظ على كيان الدولة الوطنية وعلى جهود مصر في إطار مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف.
ومؤتمر ميونخ هو أحد أكبر وأهم المؤتمرات الدولية؛ حيث يحضره نحو 35 من رؤساء الدول والحكومات و50 من وزراء الخارجية و30 من وزراء الدفاع و600 من الخبراء العسكريين والأمنيين والدبلوماسيين وغيرهم من الشخصيات البارزة وصانعي القرار من مختلف دول العالم، للتباحث حول التحديات التي تواجه العالم في قضيتين على وجه الخصوص؛ الأولى تتعلق بمكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، والثانية تتعلق بمكافحة الهجرة غير الشرعية.
ومدينة ميونيخ التي تتبنى هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات الأمنية، كانت في يوم من الأيام تتبنى الفكر الجهادي وتأوي أصحابه من خلال مسجد ميونيخ ومركزه الإسلامي الذي تأسس عام 1958، حيث حاولت ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية أن تذرع جذور الجماعات الإسلامية الراديكالية المتطرفة، وذلك عندما انشقت مجموعة من مسلمي الاتحاد السوفيتي إلى جانب الألمان والذين رفضوا العودة إلى ديارهم بعد انتهاء الحرب وعقد اتفاقية يالطا لأن إعدامهم بتهمة الخيانة كان أمرًا محتومًا، فاستقروا في ألمانيا الغربية، وبالأخص في مدينة ميونيخ.
وكان الهدف من ذلك أن ألمانيا كانت ترى حتمية سقوط الاتحاد السوفيتي يومًا ما، ومن ثم أرادت ضمان ولاء اللاجئين لاحتمال عودتهم لتولى مناصب حساسة في ديارهم؛ فقد كشف الكاتب الكندي "إيان دنيس جونسون" في كتابه «مسجد في ميونيخ» الصادر عام 2010 عن مفاجآت جديدة حول الإخوان المسلمين في أوروبا ودورهم في تجنيد عناصر تبنت فيما بعد الفكر الجهادى المتطرف.
وربط الكتاب بين بدايات الحركة الإسلامية في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ إنه يصف بداية الحركة الإسلامية الإخوانية من حيث صلتها بالجنود المسلمين الذين خدموا بالوحدات النازية الخاصة خلال الحرب، مع التركيز على ازدهار الجماعات الإسلامية المنظمة بألمانيا؛ وخاصة بميونيخ بعد توقف الأعمال العدائية، ويربط جونسون في كتابه بين نشأة جماعة الإخوان المسلمين بمصر والحركة الإسلامية في أوروبا؛ إذ يضع وصفًا جيدًا للغاية عن بدء الجماعة الإسلامية في ميونيخ التي على علاقة وطيدة باللاجئين والمشردين بعد الحرب.
ويستكشف الكاتب الاتصالات النازية لتأجيج لهيب المسلمين، وكيف استخدم الألمان وحدات الجنود المسلمين خلال الحرب لمقاتلة الروس وخوض حرب دعائية ضد الشيوعيين.
كان ذلك في الثلاثينيات من القرن الماضي عندما رأت الحكومة الألمانية في عداء الإخوان المسلمين للسامية وآرائهم المناهضة للشيوعية، حليفا مفيدا. ومن هنا مولت ألمانيا الجناح شبه العسكري للجماعة.
وفى الوقت نفسه جند النازيون المتشددون المسلمين في وسط آسيا والقوقاز لمحاربة السوفييت.
كما أثبت جونسون بنَ كل خيوط الإسلام السياسي الجوهرية في ألمانيا تمر بالفعل بمسجد ميونيخ ومركزه الإسلامي، والذي كان يضم طائفة من المفكرين النازيين عمدوا إلى التخطيط لاستخدام الإسلام سلاحًا سياسيًا إبان الحرب العالمية الثانية ليستأنفوا الإستراتيجية ذاتها خلال سني الحرب الباردة، وبالتالي تحولت ميونخ إلى مرتع للإرهاب بالنسبة للإسلاميين. وقد قاد المركز الذي كان "مهدى عاكف" مرشد الإخوان السابق يديره في الثمانينيات، طفرة غير مسبوقة في تنظيم جماعات إسلامية في جميع أنحاء أوروبا.
واستمر تواجد الإسلاميين في ميونيخ إلى أن حدثت موجة الربيع العربي في منطقة الشرق الأوسط أواخر 2010، والتي أفرزت لنا ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق وسوريا، والتي كانت تسمى بـ "داعش"، التي تبنت مبدأ التوحش الذي أفرز فيما بعد لنا "الذئاب المنفردة"، التي انطلقت كالجراد المنتشر تعثو قتلا وفسادا في بعض دول القارة الأوروبية، وأخص بالذكر فرنسا وألمانيا، والتي على إثرها خرجت بعد ذلك جحافل الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وتكون ألمانيا واحدة من أهم وأكبر المتضررين من تلك الهجرات غير الشرعية القادمة من العراق وسوريا وأفريقيا.
وهنا أخذت ألمانيا خلال هذا العام في مدينة ميونيخ التي كانت بالأمس بلد الأضداد ومرتع المؤامرات، تسعى جاهدة منذ عام 1962 بكل إمكاناتها في تأسيس "مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية"، ومنذ ذلك الوقت حرصت ألمانيا على أن يُعقد هذا المؤتمر بشكل دوري لقضايا مهمة وأساسية كانت فيما قبل 2019 تتعلق بقضايا وأمور تخص الاتحاد الأوروبي، والعلاقات الأمريكية – الأوروبية، وبعض القضايا المتعلقة بمعاهدة القوى النووية المتوسطة والقصيرة المدى مع روسيا، إضافة إلى قضايا تتعلق بتصاعد التوتر بين حلف شمال الأطلسي وموسكو، وكذلك قضايا الخلاف التجاري بين الصين والولايات المتحدة وغيرها من قضايا التوترات الأمنية العالمية.
----------------------------------------
( * ) كلية الآداب – جامعة أسيوط