للصمت حدود
كان الإعلام سببا لبعض ما جرى في يناير ٢٠١١، وكان هو السبب الرئيسي لثورة ٣٠ يونيو، وفي الحالتين كانت هناك مساحات معقولة من الحرية والاجتهاد، وقدر كبير من الحيوية السياسية للأحزاب والبرلمان والنقابات، وقاد الإعلام الرأي العام سلبا وإيجابا بقدر من المهنية، صحيح أن الضجيج والصخب كان عاليا، ولكن الصحيح أيضا أن الإعلام كان هو سلاح الطيران المقاتل عن الدولة المصرية.
وإذا يستغرب الناس في الشارع من حالة الصمت البليدة الراهنة التي لا تتناسب مع طموحات أمة، وللتعبير عن حيوية شعب أكثر من نصف تعداده في سن الفتوة السياسية، ويمتلك بدائل للمعرفة متعددة، فإذا ما أغلق إعلام وطنه النوافذ، واكتفى بنوتة موسيقية واحدة يشترك الجميع في عزفها بملل، فإن الأمر المؤكد سيلجأ الناس لإعلام الفتنة والإرهاب والشائعات، إضافة لعدم الدقة في نقل الحدث مهنيا، والتأخير في النقل هو انفصال عن الواقع، وترك المشاهد فريسة للآخرين.
ونكذب على أنفسنا حين لا نعترف أن القيود المبالغ فيها جعلت البعض يلجأ لإعلام الكاذبين، بينما نمتلك الحقيقة ونعجز عن تسويقها، ولهذا يشعر الشرفاء في هذا الوطن بالقلق من استمرار الأوضاع الراهنة على قوة مصر الناعمة من الانسحاب طوعا من معركة الدفاع عن الدولة والمؤسسات المصرية.
وإذا كان صحيحا أنه في الظروف الاستثنائية للدول تتدخل بعض الأجهزة في توجيه الإعلام، ولكن الصحيح أيضا أن من ينقل التعليمات حرفيا يتسبب في تشابه المانشيتات والتقارير هو الخطأ الأكبر، ومثل هذه الحالة لا تتبدد بمزيد من الصمت ممن يملكون المعلومات أو بالاجتهاد الشخصى قياسًا على مواقف سابقة.
لأننا أمام روايات جزئية من أطراف مختلفة تمتلك آلات إعلامية ضخمة تبث على مدار الساعة، وأظن أن السؤال الأهم الذي يخشى الكثيرون الاقتراب منه: هل يقع اللوم على الجهات الأمنية أم على المجلس الأعلى للإعلام الذي يبدو كشاهد ماشفش حاجة، لأنه ببساطة لا يملك هذا الملف، وبين مدافع بحسن نية وارتباك، وبين متربصين بكل إنجاز مصري تغيب أسلحة مصر الناعمة سواء في الهاردوير (قناة فضائية جذابة) أو السوفت وير (محللون ومثقفون وسياسيون)، على قدر تلك الحرب التي فرضها البعض على مصر زورًا وبهتانًا في جانب كبير منها.
وسواء أتقنت فن الصمت أو فن الحديث، فعليك أن تُدرك أن الأعظم منهما هو اختيارك للوقت المناسب، فمن يصمت في غير وقت الصمت أو يتحدث في وقت لا يلائمه التحدث كصياد يرمى صنارته يَنشُد أسماكـًا في حوض للسباحة، كما أن الصمت الراهن على صناعة الصحافة لم يعد مبررا ولا مقبولا، وكأننا نراقب مريضا يحتضر ونكتفي بمنحة بعض الفيتامينات والأقراص المهدئة، لأنه منذ التأميم في الستينيات وحتى الآن تحولت الصحف إلى سلع تموينية مدعمة، وتحولت إلى ماكينة دعاية متشابهة المحتوى، وإن اختلفت الترويسة.
ولا يختلف الأمر كثيرا في الإذاعة التي كانت بحق صوت وضمير مصر والمنطقة العربية، فقد انتشرت إذاعات الموجة القصيرة ذات المحتوى الهزلي كمكافأت لبعض النشطاء، ثم كانت الطامة الكبرى في عملية الاحتكار الفجة لصناعة الإعلام، وظهر من ليس لهم خبرة سابقة في إدارة المشهد سواء في صناعة الإعلام أو الإعلان، وباتت الأمور شخصية بأكثر مما ينبغي، وسط صمت غريب وكأننا نستعذب رؤية الفشل ومعايشته.