المغضوب عليهم!!
من حق هذا الجيل من الصحفيين والإعلاميين أن ينفض عن ذاته غبار العار، الذي ألصق به عامدا متعمدا من أعداء الكلمة الحرة التي حمل لواءها أجدادنا العظام في محيطهم الإقليمي، عندما كانوا قبلة الكلمة الشريفة، وقلعة الحريات الحصينة، وقادوا الأمة ضد الاحتلال الأجنبي، وطالت رسالتهم بقاعا عربية وأخرى غير عربية.
فكانت القاهرة بمطابعها وحبرها وأوراقها إطلالة نور، زلزلت عصور الفساد الوطنى، وأطلقوا من قاهرة المعز ثورات سجلتها صحف مطهرة، لا تزال محفوظة في ذاكرة الأوطان المحررة.
دفتر أحوال المهنة المقدسة يمتلئ بكثير من بطولات كان سيفها وسهمها ودانتها وقنبلتها كلمات خطتها أقلام مصرية على أوراق جابت قرى ونجوع وحوارى وأزقة المعمورة، فكانت نبراسا هاديا للأمة في أوقات عصيبة، كانت الكلمة فيها هي درع الوطن ضد كل محتل غاشم، أو ديكتاتور متغطرس، ضد فراعين وجبابرة وإمبراطوريات تحطمت بفضل صدق ما كتب هؤلاء الأجداد العظام.
لم يكن مصطلح "fake news- أخبار كاذبة" الذي أطلقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو الهجمة الشرسة الأولى التي طالت نيرانها كل أصحاب الكلمة في كل بقاع الأرض، ووجدت صداها بين أرجاء وطننا الحبيب، بل سبقتها هجمات متتالية مثلت دائما حروبا شرسة ضد الكلمة، وما أدراك ما الكلمة، الكلمة وسيلة المظلومين والكادحين ضد الطغيان، وضد الجبروت، وضد سلب الحريات، وضد كل شيطان رجيم.
من حق هذا الجيل ومن واجبه أن يجتر سير السابقين وقصص البطولات التي خاضتها أقلام أجدادهم وآبائهم وزملائهم في المهنة، حتى يعرفوا أن الوطن يخسر دوما كلما شوهت الكلمة وطالت أصحابها قصص الإفك والكذب والضلال، ليعرفوا أن بعض المفروضين علينا على الشاشات، والصفحات والمؤتمرات والندوات لا يمثلون التاريخ المبهر لتاريخ ممتد من النضال قدمه آباؤنا وأجدادنا ضد كل ظالم، وكل فاسد.
إن التاريخ يشهد أن كل عصور محاولات إخصاء الكلمة كانت نتائجها مروعة على الأوطان، وأن الصحافة الحرة كانت دائما سلاح الأمة لمواجهة الصعاب والأزمات، والوطن الذي يحظى بكلمة حرة تصبح الكلمة فيه- مهما كانت قاسية- هي نبراس الحاكم الوطنى، وخط الدفاع الأول ضد المؤامرات التي تحاك للبلاد والعباد، كاميرا "مصطفى شردى" كانت سلاح النظام الأوحد لإظهار جريمة العدوان الثلاثى، وفضحت إمبراطوريات عظمى على الملأ.
مقالات "العقاد" كانت أقوى من الرصاص ضد الملك "فاروق"، أقلام الصحفيين المصريين كانت أكبر حملة في التاريخ لفضح مؤامرة الإخوان ليس على مصر وحدها، وإنما على المنطقة بأكملها، صحف المعارضة في التجربة التعددية الثانية هي النواة الحقيقية لجيل يناير الغاضب، الذي قاد ثورة بيضاء مباركة أسقطت حكما كان قد قرر المد لما بعد الثلاثين عاما.
مقال مصطفى أمين" المهرولون" كان أول طلقة في دار الحزب الوطنى، والمعبر الأكثر ضراوة عن تجمع أهل المصالح والهرولة من حزب مصر إلى الحزب الوطني الرئاسي الذي أنشأه السادات، حملات "الأهالي" و"الشعب" و"الوفد" و"الأحرار" كانت الصياغات الآمنة ضد التطبيع مع العدو الصهيونى، نواب القروض، ونواب سميحة، وزواج السلطة من رأس المال، ووثيقة سيطرة الإخوان على مصر.. كلها أمجاد صحفية قادها أصحاب الكلمة من أجل مصر.
الأمثلة أكثر من أن تحصى، والنماذج الوطنية الباهرة أكبر من أن يجمعها مقال، لذا فقد قررنا أن نتناول في مقالاتنا القادمة نماذج من بطولات القلم والورقة، لعلها تكون نبراسا لأجيال جديدة تتعرض لمحاولات تجريف ضد تاريخ أجدادها وآبائها على مر العصور، قبل أن يظن أبناؤنا أن رسالتهم تتلاشى، وأن عصر "المغضوب عليهم" قد يمحى من ذاكرة الوطن الكثير مما قدمته صحافة مصر لوطنها العربي، ولانتمائها الأفريقي.