نبيل زكي.. انطباعات بسيطة عن رجل عظيم
لا يتعلق الأمر بقاعدة مهنية ولكن بإحساس شخصي، أشعر أن من سيرد عليّ باقتضاب لتحديد موعد إجراء حوار لن يمنحني الكثير من وقته، ولن يكون الحوار ودودًا حتى لو مهمًا، لكني أيضًا اعتدت على الرد والصبر مستعينًا بالحل الأخير «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا»، ويكون هناك حوار جيد.
مع نبيل زكي كنت أعرف أنه لا يمانع كثيرًا في إجراء أي حوار صحفي، تحدثت معه مرة أو مرتين على مدار سنوات ما بعد الثورة، وحين اتصلت به جاءت إجابته من الإجابات المُنفرة لي «أؤمر يا سيدي»، قالها عصبيًا فطلبت تحديد موعد لإجراء حوار وبدون أي مقدمة وافق على طلبى، وخلال أيام ما قبل الحوار كنت استرجع أسئلتي والمواقف، لم أقسم تاريخ مصر حسب الكتالوج الحكومي: ثورة يوليو والعدوان الثلاثي والنكسة والانتصار، قسمتها بتاريخ الرجل: حريق القاهرة وثورة يوليو والتغريبة وما قبل الحرب وسنوات الانفتاح وسنوات مبارك والإخوان، وآثرت أن أقف عند هذا الحد حتى لا أحمل الرجل ما لا يستطيع قوله، أو على الأقل أتفادى الحديث عن مرحلة لم تنتهي بعد.
قلة هم من يملكون تجربة حياتية، و"نبيل زكي" أحد هؤلاء، ناضل بنفسه قبل كلمته، وعاصر أحداث رآها رؤي العين، دخل السجن لأسباب قد تبدو للبعض بسيطة، ماذا يضيره لو وقع على بيان الأخبار ضد نقابة الصحفيين في أزمة حرب أكتوبر، كان مجرد اسم لقائمة طويلة يرأسها "موسى صبري"، لكنه رفض ذلك.
رفض أن يخون بالكلمة ففُصل وجلس في بيته، حكي لي متأثرًا كيف جلس في بيته ومن زاره ومن بعد عنه، من عرض عليه المساعدة المالية بطريقة غير مباشرة ومن وقف معه في النهاية، لا تزال مرارة المرحلة في حلقه حين داس على القلم الذي لم يفارقه طوال الحوار ليقول «قلت لموسى صبري أي مومس في البلد تقدر تسافر وأنا مانعني من السفر»، وكان المنع في عهد عبد الناصر يتم عن طريق منع حصوله على التأشيرة والأوراق اللازمة للسفر وكانت الحجج كثيرة.
الأساطير ليست فقط ما نكتبها أو نشاهدها في الأفلام، كنت أجلس أمام رجل نشأ في بيت ميسور، ولكنه دافع عن الفقراء، تظاهر في سن الرابعة عشر وعرف طريق القسم مبكرًا، أصبح له ملف سياسي وهو لم يكمل العشرين، سمعت بعض الزملاء الصحفيين يتهمون الرجل بالكثير من النواقص أو على طريقة كبروا وخرفوا ومسحوا تاريخهم، أصمت لأني أعرف أن الزميل الذي يخبرني بذلك يخشى أن يكتب كلمة خارج المألوف فُيحبس أو يجلس في بيته.
لكن على الأقل "نبيل زكي" تحدى "عبد الناصر" في أوج قوته، ودخل المعتقل 5 سنوات كانت الأقسى في تاريخ المعتقلات المصرية، وعُلق في الفلكة لأنه يرفض أن يهتف باسم "جمال عبد الناصر"، لكنه هتف له حين اختار الأخير التنحي.
الأسطورة ليست فقط ما نكتبها أو نشاهدها، خرج الرجل الذي لم يكن تزوج، خرج من المعتقل وتزوج وبنى حياته وعارض كثيرًا حتى اضطرته الظروف إلى مغادرة البلاد لتتسع معرفته، وليكون له نصيب في أن يكون شاهدا على العصر، عرف "طارق عزيز" في العراق وقد تحول فيما بعد للصندوق الأسود لـ"صدام حسين"، انتقل إلى لبنان ومع قدومه بدأت الحرب الأهلية اللبنانية، لكنه غادرها بمجرد أن رأى مخيم تل الزعتر، هناك ترك بيته وسيارته وكتبه وغادر بشنطة هدومه فارًا من مناظر الدماء التي لم يستطع تحملها!
الأسطورة ليست فقط ما نكتبها أو نشاهدها، جاء الرجل ليشارك في حزب التجمع ويبدأ مسيرته من رفض لكامب ديفيد واغتيال للسادات وسنوات مبارك.
كيف يمكن تلخيص وطن في رجل واحد، رجل تفتح وعيه على تظاهرات 35، اقترب من "مكرم عبيد"، وأصبح أحد تلاميذه، شاهد أزمة فبراير 1942، حريق القاهرة، ثورة يوليو، أزمة نجيب وجمال، قرارات التأميم، النكسة، حرب أكتوبر، الحرب الأهلية اللبنانية، اغتيال السادات، حكم مبارك، ثورة 25 يناير، حكم الإخوان، حكم السيسي.
هذا رجل رأى وتعامل مع مكرم عبيد، محمد نجيب، خالد محيي الدين، موسى صبري، طارق عزيز، محمد حسنين هيكل، مصطفى أمين، ياسر عرفات، قيادات في الحزب الشيوعي السوفيتي، كمال جنبلاط، فؤاد سراج، حسني مبارك، فاتن حمامة، جميل راتب، صلاح أبو سيف، يوسف شاهين، عبد الرحمن أبو زهرة، وكل رجل له معه قصة ومعظم حكاياته لا تصلح للنشر على الأقل في الوقت الحالي!
لا أعرف كيف سمح لي الرجل بالجلوس معه 5 ساعات على مرتين ليحكي تفاصيل كل هذا في حوار سيظل مكانته غالية عندي، لكن الأهم أن الرجل الذي ظننت رده مقتضبًا حين وصلت إلى مكتبه لم يكن هناك سكرتير، أخبرني حارس الجريدة أن أدخل عليه فورًا، الحجرة بسيطة جدًا رغم أن اللافتة تشير إلى إنه رئيس لمجلس إدارة جريدة، داخل الجدران كنت أشعر أني أمام كنز معلوماتي، لذلك تجاهلت في البداية رده المقتضب وطرحت عليه الأسئلة التي لا بد لها من حكي، فحكى وحين حلى الحديث طلبت أن نستكمله في موعد آخر فرحب أكثر، وفي نهاية الحوار أعطاني كتابين لأني «شاطر»، وكانت شهادته لي عزيزة.
"نبيل زكي" الذي رحل كما رحل رفقاؤه بسيطًا هادئًا، عاش حياته كما يريد وملئها تجارب وقصصا ربما يأتي اليوم التي أروي جزءًا منها.