رئيس التحرير
عصام كامل

الإمام «أبو حنيفة».. ضحية التطرف!


ذكر الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"، بسنده إلى عبد الله بن رجاء الغداني أنه قال: كَانَ لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حَتَّى إذا جنَّه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحمًا فطبخه، أَوْ سمكة فيشويها، ثُمَّ لا يزال يشرب، حَتَّى إِذَا دب الشراب فيه غنى بصوت، وَهُوَ يَقُولُ: "أضاعوني وأي فتى أضاعوا.. ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ".


فلا يزال يشرب ويردد هَذَا البيت حَتَّى يأخذه النوم، وَكَانَ أَبُو حنيفة يسمع جلبته كل يوم، وَكَانَ الإمام يصلي الليل كله، ففقد صوت جاره، فسأل عَنْهُ، فَقِيلَ: أخذه العسس (الجنود) منذ ليال، وَهُوَ محبوسٌ، فصلى أَبُو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ، وركب بغلته، واستأذن عَلَى الأمير، قَالَ الأمير: ائذنوا لَهُ، وأقبلوا بِهِ راكبًا، ولا تدعوه ينزل حَتَّى يطأ البساط، ففعل، فلم يزل الأمير يوسع لَهُ من مجلسه، وَقَالَ: ما حاجتك؟

قَالَ: لي جارٌ إسكاف أخذه العسس منذ ليالٍ، يأمر الأمير بتخليته، فَقَالَ: نعم، وكل من أُخذ في تِلْكَ الليلة إلى يومنا هَذَا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أَبُو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه، فَلَمَّا نزل أَبُو حنيفة مضى إِلَيْهِ، فَقَالَ: يا فتى، أضعناك؟ فَقَالَ: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان. يقال إن هذا الجار تاب عن شرب الخمر، وأصبح من تلاميذ أبي حنيفة الذين لا يفارقونه.

هذا هو الإمام الأعظم، إمام الكوفة في زمانه أبو حنيفة النعمان (توفى عام 150هـ)، زعمت الحركات المتشددة، وفي مقدمتها "طالبان"، أنها تتبع هديه.

كان، رحمه الله، يوصف بالاعتدال، وبأنه "سابق لعصره"، ففي فقهه نجد المساواة بين الدِّماء، لا يُميز بين مسلم وغير مسلم في القصاص.. إذا قتل مسلم غير مسلم يُقاد به، ويسمح بفتح المساجد والجوامع لغير المسلمين، وقد سند ذلك إلى رواية صلاة مسيحيي نجران في المسجد النبوي، وبأمر من النَّبي، صلى الله عليه وآله وسلم، نفسه، وهو لا يأخذ المرأة في حُكم الرِّدَّة، والمرتد لا ينفذ فيه الحد إلا بعد استتابته، واعترف للمرأة بمنزلة العقل والدِّين، عندما أفتى بصحة ولايتها القضاء، وفوق كلّ ذلك كان مؤسسًا لمدرسة «الرَّأي».

في آرائه المستنيرة تميز أبو حنيفة، عن غيره مِن الفقهاء المؤسسين لمدارس الفقه والمذاهب، ما يصلح لأن يكون قاعدة إسلامية للتسامح الديني، ولا سيما بما يتعلق بمعاملة غير المسلمين، وما تقتضيه المواطنة، وما يفرضه تداخل البشر وعلى مختلف العقائد. كما يتشدد في معاملة الإنسان للإنسان، وهذا ما يُسمى بفقه المعاملات، لكنه لا يتشدد فيما بين الله والإنسان، وهو ما يُسمى بالعبادات، فلا يُكفر أو يفتي بالقتل بسببها.

«طالبان» كحركة وسلطة، قدمت المذهب الحنفي على أنه مذهب متطرف، وأن صاحبه رأس التشدد، وبهذا اخترعوا مذهبًا حنفيًا مختلفًا.

«طالبان» حرمت على النساء التعليم، وكشف الوجه، وفرضت عقوبة على سائقي التاكسي في حالة السماح بركوب كاشفات الوجه والخارجات بلا محارم، وحرمت على النساء غسل الثياب على شواطئ الأنهار والترع، وحظرت على الرِّجال خياطة ثياب النساء، وحرَّمت الموسيقى، في كل مكان، وعاقبت المخالف بالسجن، وفرضت عدم قص اللحية..

وكان لدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقاس خاص بطول اللحى، ومن يخالف يُعتقل حتى تطول لحيته، والصلاة ممنوعة إلا في المساجد، ومنع تربية الحمام واللعب بالطيور، ومن يُخالف عقوبته السجن وذبح الطيور، وتحريم اللعب بالطائرات الورقية، وكذلك تحريم النحت، ووصفته بأنه "صناعة الأصنام".. كل هذا ما لم يقله أبو حنيفة! لقد ظلموه ظلمًا بيِّنًا!!

ما مارسته «طالبان» خلال حكمها في أفغانستان، لا يمت بصلة لأبي حنيفة.. وبالتأكيد سنجد تصرفات مشابهة، وخلطًا للمفاهيم لدى غيرها من الحركات المتطرفة، مثل: "داعش"، و"بو كو حرام"، و"القاعدة".. وما إليها.

تمامًا، كما تسببت كتب التراث "إياها" في تشويه صورة الإسلام، وحالت دون الأجيال الحديثة والفهم الصحيح لدين الرحمة والمودة والتسامح والتعاطف.
الجريدة الرسمية