موتى مُبدعون.. وأحياء خاملون!
عطفًا على الضجَّة التي فجَّرها نشر خبر عن تعيين شخص، انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل 11 عامًا، وزيرًا للنقل، خلفًا للدكتور "هشام عرفات"، الذي أطاح حادث "محطة مصر" به من منصبه.. فإن هناك كلامًا كثيرًا عالقًا داخل الأفواه وتحت الألسنة يجبُ أن يُقال؛ إنصافًا للموتى وإقرارًا بأفضالهم على الأحياء البائسين!
الواقعُ يقول إننا لا نزال نعيش في كنف الموتى والذين رحلوا قبل عقود وقرون طويلة، ونستلهم أفكارهم وآثارهم، ولا ينكرُ عاقلٌ أنَّ فضل بعض الموتى، يفوق فضل كثير من الأحياء، ولا يقتصر ذلك على فرع دون آخر، أو مجال دون غيره.
في الدين والسياسة والثقافة والفن والصحافة مثلًا.. الموتى يكسبون السِّباق، ويحتلون الصدارة، فيما يكتفى الأحياء بالغش أو التدليس أو السرقة أو التقليد.. وأحيانًا التشويه والتشكيك وإثارة الجدل، دون ابتكار أو تجديد أو إقرار بفضل مَنْ سبقوهم بإحسان.
دينيًا.. لا يزال المصريون أسرى ما أنتجتْه عقول الأسلاف والمُتقدمين، ويتعاملون مع كتبهم ومؤلفاتهم، باعتبارها صالحة لكل الأزمنة والأمكنة. ومن الأسباب التي فاقمت هذه الظاهرة، اختفاءُ طبقة العلماء المُجتهدين المجددين الثقات الذين لا يخلطون الدين بالسياسة، ولا يجعلون الدين مطيَّة للأهواء والأنواء، ولذلك أصبح "ابن تيمية" و"ابن حنبل" و"ابن القيم" و"السيوطى" والشيخ "الشعراوى" والدكتور "مصطفى محمود" وآخرون، أكثر تأثيرًا وإقناعًا ممن لا يزالون على قيد الحياة، ويعيشون بين ظهرانينا ويتخذون من الدين وسيلة للاسترزاق واسترضاء الأسياد.
وسياسيًا.. لا يزالُ من بيننا من يحنُّ إلى "الملكية"، وفئة أخرى تعشق الرئيس الأسبق "جمال عبد الناصر" وترفعه إلى مرتبة العظماء والزعماء الكبار بل والأنبياء المعصومين رغم أخطائه وخطاياه، وطبقة ثالثة توقَّف بها الزمن عند الرئيس الراحل "محمد أنور السادات".. وكلُّ فريق منهم يُغنى على ليلاه.
وما ينطبقُ على الرؤساء ينطبق على أسماء مجموعة من الوزراء مثل: الراحل اللواء أحمد رشدي "الداخلية"، والراحل الدكتور أحمد جويلي "التموين"، وهكذا. وهذه نتيجة منطقية لاختفاء ظاهرة الوزراء الجادِّين والمُؤثرين والمدركين لهموم الغلابة من الساحة السياسية بلا رجعة.
وفنيًا.. لا تزالُ الألحانُ والكلماتُ والأصواتُ "القديمة" هي المُلهمة لكل صوت "جديد" أو موهبة تبحثُ عن الطريق وتسعى إلى إثبات جدارتها. هذا لا يحدثُ في الغناء فقط، بل في فن التلاوة والتواشيح أيضًا. وأصبح الراحلون مثل: "أم كلثوم" و"محمد عبد الوهاب" و"عبد الحليم حافظ" و"بليغ حمدي" و"السنباطي" و"حسين السيد" و"مرسي جميل عزيز" و"زكريا أحمد" و"سيد مكاوي" وغيرهم أكثر حضورًا من جيل الأحياء من "صُناع المزيكا".
ولا يزال الراحلون "مصطفى إسماعيل" و"عبد الباسط عبد الصمد" و"محمود خليل الحصري" و"محمد صديق المنشاوي" و"محمود علي البنا" و"النقشبندي" و"نصر الدين طوبار" وغيرهم ممن قضوا نحبهم هم الشيوخ المُفضلون لمُحبي الاستماع للتلاوات القرآنية والابتهالات والتواشيح الدينية، مقارنة بالقرّاء والمبتهلين المعاصرين الذين يُشبه بعضهم بعضًا، والذين تسللوا إلى ميكرفون الإذاعة بـ"كروت التوصية"، وليس بالموهبة.
وثقافيًا.. لم تفرزْ السنوات الأخيرة مُفكرًا كبيرًا أو أديبًا عبقريًا أو فيلسوفًا فذًَّا يُشارُ له بالبنان، وبقيتْ أسماء الراحلين مثل: "طه حسين" و"توفيق الحكيم" و"يوسف السباعي" و"يوسف إدريس" والدكتور "زكي نجيب محمود" أكثر حضورًا مِنْ أسماء مَنْ لا يزالون على قيد الحياة الذين يبنون أمجادهم الزائفة بالسرقة والنقل والاقتباس والتقليد، ومن لا يشغلهم سوى الحصول على جوائز "مشبوهة" من خارج مصر ومن دول مُعادية لها!
وصحفيًا.. فإن القاصي والداني يعترفان بانتهاء عصر الأساتذة وزمن الكبار منذ رحيل "محمد حسنين هيكل" و"إبراهيم نافع" و"إبراهيم سعدة"، في السنوات القليلة الماضية. وانعكس ذلك على صناعة الصحافة التي دخلت نفقًا مُظلمًا بأيدى أبنائها والمُنتسبين إليها. ولم نعد نملك سوى الدعاء من أجل أن تعود مُجددًا إلى الحياة. ويبدو ذلك واضحًا أيضًا في الأسماء المحدودة التي تترشح كل دورة على منصب "نقيب الصحفيين"!
ما تقدَّمَ من سطور لا يمكنُ ترجمته بأنه "نوستالجيا" أو "حنين إلى الماضي"، يعشقه المصريون، ولكنه واقعٌ أليمٌ يعكس الحالة المصرية التي وصلت في كثير من المجالات إلى حدِّ التصحُّر، وكأن أرض المحروسة بارتْ وعقمتْ ووصلتْ إلى سنِّ اليأس.
بقاءُ تأثير الموتى في الأحياء وامتداده، عبر العقود المتعاقبة، جيلًا وراء جيل، في الوقت الذي تكتفي فيه الأجيال الجديدة بأدوار "ضيوف الشرف" و"الكومبارس"، يجب أن يُنظر باعتباره "ظاهرة سلبية"، تعكس تراجع الحالة الإبداعية في مصر، حتى صار الجدد يقتاتون على ما تركه القدامى ولا يضيفون إليه شيئًا يُذكر..
باختصارٍ.. الأحياءُ مُستهلِكون في محياهم، والموتى مُنتجون في قبورهم.. فالمجدُ إذن للموتى، وأهلًا وسهلًا ومرحبًا بتعيين الراحلين في مواقع المسئولية إذا كانوا قادرين على إصلاح ما أفسده ويفسدُه وسوف يفسدُه الأحياءُ.