رئيس التحرير
عصام كامل

رسالة ممنوعة من الوصول!


في ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبي (فانكا) ابن الأعوام التسعة، والذي أعطوه منذ ثلاثة أشهر للإسكافي (الياخين) ليعمل صبيا لديه. وانتظر حتى انصرف أصحاب البيت والأسطوات إلى الصلاة، فأخرج من صوان الإسكافي محبرة وقلما بسن صدئ، وفرش أمامه ورقة مجعدة وراح يكتب. 

وقبل أن يخط أول حرف نظر إلى الباب والنوافذ بحذر، وتطلع بطرف عينه إلى أيقونة القديس التي امتدت عن جانبيها أرفف محملة بالنعال، وزفر زفيرا متقطعا. كانت الورقة مبسوطة على الأريكة، أما هو فقد جثا على ركبتيه أمامها. وكتب: 'جدي العزيز "قسطنطين مكاريتش"! أنا أكتب إليك خطابا. أهنئكم بعيد الميلاد وأرجو لك من الله كل الخير. أنا ليس لدي أب أو أم، ولم يبق لي غيرك وحدك'. 

وحول فانكا بصره إلى النافذة المظلمة التي عكست ضوء شمعته المتذبذب، وتخيل بوضوح جده "قسطنطين مكاريتش" الذي يعمل حارسا ليليا لدى السادة آل "جيفارف"، في إحدى القرى البعيدة عن العاصمة موسكو.

وتنهد "فانكا"، وغمس الريشة في الحبر، ومضى يكتب: 'بالأمس ضربوني علقة، شدني المعلم من شعري إلى الحوش وضربني بقالب الأحذية، لأني كنت أهدهد رضيعه فنعست غصبا عني. وفي هذا الأسبوع أمرتني زوجته أن أقشر سمكة، فبدأت أقشرها من ذيلها، فشدتها مني وأخذت تحك رأسها في وجهي. والأسطوات يسخرون مني ويرسلونني إلى الخمارة لشراء الفودكا، ويأمرونني أن أسرق الخيار من بيت المعلم، والمعلم يضربني بكل ما يقع في يده. 

وليس هناك أي طعام، في الصباح يعطونني خبزا، وفي الغداء عصيدة، وفي المساء أيضا خبزا، أما الشاي أو الحساء فالسادة وحدهم يشربونه. ويأمرونني بالنوم في المدخل، وعندما يبكي ابنهم لا أنام أبدا وأهز سريره.. يا جدي العزيز، بالله عليك خذني من هنا إلى قريتنا. أنا متعب للغاية... 

خذنى وسوف أصلي لله دائما، خذني من هنا وإلا سأموت.. 

وقلص "فانكا" شفتيه ومسح عينيه بقبضته السوداء وأجهش. ومضي يكتب: 'سأطحن لك التبغ، وأصلي لله، وإذا بدر مني شيء اضربني كما يُضرب الكلب. وإذا كنت تظن أنه ليس لي عمل فسأرجو الخولي بحق المسيح، أن يأخذني ولو لتنظيف حذائه، أو أعمل راعيا. 

جدي العزيز، لم أعد أحتمل، حتما سأموت كأمى. أردت الهروب إلى القرية ماشيا ولكن ليس لدى حذاء وأخشي الصقيع، وعندما أكبر سوف أطعمك مقابل هذا وسأحميك، وإذا مت يا جدي فسأصلي من أجل روحك كما أصلي من أجل أمي "بيلاجيا".. 

جدي العزيز، عندما يقيم السادة شجرة عيد الميلاد خذ لي جوزة مذهبة وخبئها في الصندوق. قل للآنسة "أولجا" إنها من أجل "فانكا". 

وتنهد "فانكا" وسمر عينيه في النافذة من جديد. وتذكر أن جده كان دائما يذهب للغابة لإحضار شجرة عيد الميلاد ويصطحبه. يا له من عهد سعيد!

ومضي "فانكا" يكتب: 'احضر يا جدي العزيز، أستحلفك بالله أن تأخذني من هنا. أشفق عليّ أنا اليتيم المسكين، لأن الجميع يضربونني، وأنا جوعان جدا، ولا أستطيع أن أصف لك حالتي، وأبكي طول الوقت. ومن مدة ضربني المعلم بالنعل على رأسي حتى وقعت ولم أفق إلا بصعوبة. 

ما أضيع حياتي، أسوأ من حياة أي كلب.. تحياتي للجميع حولك.. لا تعط الهارمونيكا لأحد. حفيدك دائما "فانكا ايفان جوكوف"، احضر يا جدي العزيز'. 

وطوى فانكا الورقة المكتوبة أربع مرات ووضعها في مظروف كان قد اشتراه مسبقا.. وفكر قليلا ثم غمس الريشة وكتب العنوان: إلى قرية جدي، وحك رأسه وفكر، ثم أضاف: 'قسطنطين مكاريتش'. وارتدى غطاء الرأس وهو سعيد لأن أحدا لم يعطله عن الكتابة، ولم يضع المعطف على كتفيه، بل انطلق إلى الخارج بالقميص فقط... 

كان الباعة في دكان الجزار الذين سألهم من قبل قد أخبروه أن الرسائل تلقى في صناديق البريد، ومن الصناديق تنقل إلى جميع أنحاء الأرض على عربات بريد. وركض "فانكا" إلى أول صندوق بريد صادفه، ودس الرسالة الغالية في فتحة الصندوق. وبعد ساعة كان يغط في نوم عميق وقد هدهدت الآمال الحلوة روحه.. 

وحلم بالفرن. كان جده جالسا على الفرن مدليا ساقيه العريانتين وهو يقرأ الرسالة للطاهيات.. وبجوار الفرن يسير كلبه 'فيون' ويهز ذيله.

للأسف يبدو أننا جميعا صرنا "فانكا" بطل قصة الروائي الروسي العظيم "أنتوني تشيخوف"، أحلامنا بسيطة للغاية، رغيف خبز مقابل عمل، ومعاملة لائقة تشعرنا بإنسانيتنا المهدرة في الزحام والحوادث والسعي وراء بطاقة التموين، والتي صار شبح إلغائها كابوسا يؤرق كل رب أسرة تحوّل لـ"فانكا" جديد مهما كان كبيرا.. 

فقط قليل من الرعاية المستحقة مقابل ود وإخلاص وتفانٍ للوطن الذي حق عليه أن يرعانا، نقبل بذلك غير طامحين في شيء سواه، تماما مثل الطفل البائس "فانكا" الذي لا تتخطى أحلامه حجم جسده الضئيل، ونفسه البسيطة الراضية، ولكن رسائلنا لا تصل أبدا للجد المسئول!
fotuheng@gmail.com

الجريدة الرسمية