سيقولُ السفهاءُ وَسَيكتبونَ
"سيقولُ السفهاءُ من الناس..."، هكذا وصفَ التعبيرُ القرآنىُّ الذين سخروا من تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المُشرَّفة، ونعتَهم بـ"السفهاء"، لأنهم تحدثوا فيما لم يفقهوا، وتطاولوا على الإسلام ورسوله الكريم والمسلمين الأوائل.
لفظة "السفهاء" لم يقتصر ذكرُها في القرآن الكريم على هذا الموضع فقط، بل تكرَّرَ غير مرة، وظلَّ وصفًا لفئةٍ من الناس تجمعُ بين: الشطط والحماقة والغباء والتدني الأخلاقي وخفة العقل والتسرع في الحُكم والتعالُم أي ادعاء العلم.
لا يخلو عصرٌ من "السفهاء"، فلكل عصرٍ سفهاؤه، وكأن وجودَهم صارَ من لزوم ما يلزم، فهم حاضرون دائمًا وأبدًا، يسممون الأجواء بسفاهتهم وشططهم وتجاوزهم، ويثيرون الفتن والضغائن، وينشرون الأكاذيب، ويروجون الأباطيل. والسفهاءُ أنواعٌ، فمنهم: سفهاءُ الدين، وسفهاءُ السياسة، وسفهاءُ الأخلاق.. وآخرون لا تعلمونهم، الله يعلمهم!
يتعاظمُ دور "السفيه" في المجتمعات السفيهة، ويتراجعُ إلى حدِّ الاختفاء في المجتمعات الرشيدة العاقلة، ففى الأولى.. تعلو أصواتُ السفهاء، ويتم التمكين لهم، وفى الثانية.. يدخلون الجحور قسرًا ويختفون عن الأنظار قهرًا.
في المجتمعاتِ العربية.. يمتلكُ السفيهُ حصانة ومكانة وكرامة، ووضعًا اجتماعيًا مميزًا، لأن له أدوارًا يضطلع بها في الوقت المناسب، عندما يأتيه التوجيه والأمر المباشر. المجتمعاتُ العربية تُعظِّم من شأن سفهائها، وتحملهم فوق الرءوس، وتمنحهم التكريمات دون انقطاع، ليضاعفوا من سفاهتهم ويطوروا من أساليبهم ويعظموا من إمكانياتهم.
أمَّا المجتمعاتُ الغربية العاقلة.. فلا مجالَ فيها للسفهاء عندها إلا في قاع الحضيض، وفى أدنى المستنقع، وفى أسفل سافلين، وتحت الأقدام.
والسفهاءُ فريقان، أحدُهما مُحترفٌ، وثانيهما هاوٍ، ولكن في انتظار الانضمام للفريق الأول، ولا يمانع في سبيل تحقيق هدفه المنشود من التجرُّد من أي شيء، بدءًا من أبسط المقومات الأخلاقية والدينية، وليس انتهاءً بخلع ملابسه.. الحكماءُ من الناس لا يُفضَّلون التعاطى مع سفاهة السفهاء والرد عليهم، لأن ذلك لا يجلبُ إلا سوءًا وندمًا وظلمًا للنفس.
الإمامُ "علىُّ بنُ أبي طالب" – كرَّم الله وجهَه- يُحذِّرُ من التجاوب مع تلك الفئة الضالة مُنشدًا: يخاطبني السفيهُ بكل قُبح، فأكرهُ أن أكونَ له مُجيبًا، يزيدُ سفاهةً فأزيدُ حِـلـمًا، كعُودٍ زاده الإحراقُ طيبـًا.
المعنى ذاتُه.. نلمسُه في قول القائل:
فاترُك مُحاورةَ السَفيهِ فإنها ندمٌ وغِبٌّ بعدَ ذاكَ وَخيمُ، وإذا جَريتَ مَع السفيهِ كَما جرى، فَكِلاكُما في جَريهِ مَذمومُ، وَإِذا عتِبتَ عَلى السفيه ولُمتَهُ في مثلِ ما تأَتي فأَنتَ ظَلومُ!!
الشاعرُ "محمود الورَّاق" بدا أكثر تشخيصًا وتدقيقًا لهذا المرض العُضال وكيفية التعامل معه، حيثُ أنشد:
رجَعتُ عَلَى السَّفيهِ بِفضلِ حِلْمٍ، وكَان الفعلُ عنه لَه لِجَاما، وظَنَّ بِيَ السَّفَاهَ فَلَم يَجِدني أُسَافِهُهُ وقُلْتُ لهُ سَلاَما، فَقَامَ يجُرُّ رجليهِ ذلِيلًا، وقَدْ كَسَبَ الْمذَمَّةَ وَالْمَلامَا، وَفَضلُ الْحِلْمِ أَبْلَغُ فِي سَفِيهٍ، وَأَحرى أَنْ يَنالَ بِهِ انتقَامَا.
وفى عصر الثورة التكنولوجية.. يتكاثرُ السفهاءُ ويتزايدون ويتناسلون، حتى أصبحوا في كل وادٍ يهيمونَ، ويتصايحون بسفاهتهم عبر وسائل الإعلام المختلفة المكتوبة والمسموعة والمرئية، ومن خلال منصَّاتِ الفضاء الإلكتروني، هذا يسبُّ ويشتمُ ويقذفُ، وذاك يهرفُ بما لا يعرفُ، وثالث يدافعُ عن باطل وهو يعلمُ أنه باطلٌ، ورابعٌ يناطحُ دينًا عن جهلٍ، لينطبقَ عليه قولُ القائل: إذا غلبَ الشقاءُ على سفيهٍ، تنطعَ في مُخالفة الفقيهِ..
وخامسٌ يدافعُ عن انحرافٍ أخلاقىٍّ ويروجُ لفوضى مُجتمعيةٍ، وسادسٌ يتطاولُ على من هم أعظمُ منه عقلًا ورُشدًا، وسابعٌ يشمتُ في المصائب ويفرحُ في الكوارث، وثامنٌ يسخرُ ويستهزئ، وتاسعٌ يُضللُ، وعاشرٌ يدَّعى المعرفة والحكمة والعلم، فآفةُ السفهاءِ التعالُمُ..
وهكذا، فكل هؤلاء سفهاءٌ، وقد لا يعلمون أنهم سفهاءٌ، وهم أقربُ إلى قوله تعالى: "أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ".
كثرةُ السفهاء وتنوعُهم ومطاردتهم لنا عبر الصحيفة الورقية أو الإلكترونية، ومن خلال الإذاعة والتليفزيون، وفوقَ منصَّات التواصُل الاجتماعى.. لا تجعلها مسوِّغاتٍ لتضليلك وانحرافك عن جادَّة الصواب، وتذكر دائمًا النصيحة القرآنية: "لا يضُرُّكم من ضلَّ إذا اهتديتم"، وابحثْ عن الحقيقة بنفسك وسوف تجدُها إن أخلصت النيَّة، ففى أزمنة السفهاء قد يكون الوصول إلى الحقيقة شديدَ الصعوبة، ولكنه ليس مستحيلًا.
واعلمْ، إنْ لم تكنْ تعلم، أنَّ السفهاءَ من أسباب هلاك المجتمعات والأوطان، فلا تجالسْهم ولا تخالطهم ولا تتخذْ من بينهم صديقًا أو خليلًا أو رفيقًا، واهجرهم هجرًا يليق بك وبهم، فالسفيهُ يُضرُّ مُخالطيه بطول لسانه وسوء كلامه وقبح جوابه وخُبثه ومكرِه وتماكُره، واعلمْ أنَّ مكايدَ السفهاء واقعةٌ بهم، أوليسَ القرآنُ الكريمُ هو القائل: "أتهلكنا بما فعلَ السفهاءُ منا"؟!