توفيق الحكيم يكتب: لبشة قصب في أسوان
في مؤلفه تأملات في السياسة كتب توفيق الحكيم تحت عنوان «في أسوان» يقول: لا أبغض شيئا في السفر بغضى لقطار الصباح الباكر، إنه يضطرني إلى الوثوب عجلا من الفراش في تلك الساعة الذي يلذ فيه الدفء ويحلو الكسل.. لذلك أضمرت في نفسي أمرا للقطار السريع الذاهب إلى أسوان وتناولت حين جاء رفاق السفر لإيقاظي إلى أن فات ميعاد القطار.
ولم يكن بعدئذ من قطار العصر، وهو بطيء لكن أثار سخط الأصحاب لكنه أرضاني حيث كان يقف دهرا على كل محطة خاوية في خلاء الصحراء، قلت لرفاقي: تريدون السرعة؟ فلن يهلك الحضارة العصرية غير السرعة.. السرعة الملعونة التي تجرف حياتنا جرفا إلى الفناء، كأنها قشة في تيار ماء.
نظروا إلى شزرا فمضيت أقول: الوصول إلى الغاية سريع لا يهم، المهم الاستمتاع بالطريق افتحوا أعينكم وتأملوا هذه الصخور الصفراء والحمراء، إنها مملوءة بعنصر الحديد، ثم هذه المزارع الخصبة المملوءة بقصب السكر، إنى أحب القصب فما رأيكم ننزل ونمص القصب.
قالوا لى ألا تعلم أن هذا القصب ناقل للملاريا، قلت لهم: أنقذتم حياتى فلن أمس عود قصب منذ اليوم، ودخل علينا الليل والقطار يتلكع إلى أسوان كأنه سلحفاة بخارية وأغمضت عيني لأنام وإذا بأصدقائى يقولون: حمد لله على السلامة.
ذهبنا إلى فندق كتراكت وكانت حجرتى تطل على النيل وفى الصباح فتحت النافذة ووجدت النيل.. هل هو نهر من أنهار الجنة التي لم تكشف لعين بعد ينتشر بينه صخور الجرانيت السوداء كأنها بط يسبح في الماء.
خيل إلي أن النيل يهمس في أذني: لا تعجب أنك آت من الشمال، ولكن ثق أنك في هذه البقعة تشهد صباى وشبابى كما كان منذ 5000 عام، فليس ما ترونه في الشمال هو النيل.. تعالوا إلى الجنوب وأنتم تعرفون كيف كان النيل؟.
أغلقت النافذة وتناولت فطوري ونزلت إلى باب الفندق اتأمل النيل من جديد، وكان إسماعيل باشا صدقى من نزلاء الفندق ودار بيننا الحديث في جمال النيل وفى كنوزه.
قلت له: لماذا لم ننتفع بكنوز النيل؟ فقال إسماعيل باشا: الأغراض السياسية داخليا وخارجيا، فإن أفتنا الداخلية هي السياسة للسياسة والخارجية هي الضغط الأجنبي، إن العقلية المصرية لم تتغير منذ أجيال سواء في الحكام أو المحكومين.
قلت له: ومتى نستطيع أن نرى الفرد العادي في بلادنا يقول: من لا يستطيع أن يحسن حالتى ليس له عندي أي اعتبار وأن تصبح السياسة للاقتصاد وليست للسياسة؟.. ابتسم صدقى باشا وقال: أتحب القصب؟ إن شركة كوم أمبو أرسلت لى لبشتين من القصب "خد الجميل".
فما كدت أسمع اسم القصب حتى صحت: احذر يا باشا من القصب، إنه ناقل للملاريا.
قال: من قال لك هذا؟ قلت: هؤلاء.. وأشرت إلى رفاق السفر الذين استغرقوا في الضحك وقالوا: اضطررنا أن نقول له ذلك لأنه كان يريد أن ينزلنا من القطار ليمص قصبا.
ابتسم صدقى باشا وقال: أتحب القصب، خذ هذه اللبشة.