دروس سقوط النظم
الدول والأمم والإمبراطوريات والنظم مثل أي كائن حي تمر بنفس الأطوار من نمو وقوة وضعف وشيخوخة ثم فناء، وتلك أهم نتائج "ارنولد توينبي" في دراساته للحضارات والنظم، وقبلة المفكر العربي "ابن خلدون"، وحدد بالضبط مظاهر الوهن والضعف، ورغم أن تلك المظاهر أصبحت شبه قوانين في علوم الاجتماع والسياسة، ولكن أحدا ممن في السلطة لا يقرأ أو يستخلص العبر، وخاصة في التاريخ المصري والعربي والإسلامي.
ذلك أن "بن على" رئيس تونس فهم شعبه في الوقت الضائع، وقال لهم يوم الرحيل (الآن فهمتكم)، وبينما كان الدرس ساخنا قال المصريون لم يمسسنا شيء، ومصر ليست تونس حتى وقعت الواقعة، وكان يمكن تفادي كل ما حدث في ٢٥ يناير لو أن "مبارك" أقال "حبيب العادلي"، أو نفذ أحكام القضاء، ولكنه قال (خليهم يتسلوا)، وظل معاندا ومتأخرا عن الفعل حتى أصبح فيما بعد كل فعل هو رد فعل.
وكان أن نفذ أكثر مما كانت تطالب به الميادين، ولكن ذلك كان في الوقت الضائع مما رفع سقف المطالَب بالتنحي، وهو ما حدث ذلك لأن الرجل لم يكن يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، بعد أن تغولت حاشيته وأبعدوا المستشارين الثقة كـ"أسامة الباز"، والمصيبة أن المشهدين المصري والتونسي لم يتركا أثرا عند "القذافي" ليكرر نفس الأخطاء.
بدون أن يقرأ المشهد لكي يترك هو الآخر مقولته الشهيرة (من أنتم)، وينتهي به الحال وبوطنه أسوأ نهاية، بغض النظر عن التآمر الدولي والتمويل الأجنبي والحشد الدولي لتدمير ليبيا، لكي يستمر مسلسل السقوط، فبعد شهر واحد من بدء الأحداث في ليبيا اندلعت الانتفاضة في "سوريا" في مارس ٢٠١١.
بعد اعتقال خمسة عشر طفلا والتنكيل بهم لأنهم كتبوا عبارات منددة بالنظام، متأثرين بمظاهرات ما سمي بالربيع العربي، وثار الشباب السوري مطالبين بإصلاحات سياسية واقتصادية، ورفعوا نفس شعارات مصر وتونس (الحرية والكرامة)، وكان الرصاص الحي هو الرد في مدينة درعا.
مما أدى لمقتل أربعة أشخاص، وبدأت مسيرة الدمار والسقوط لفشل النظام السوري هو الآخر في قراءة المشهد، وهو نفس ما جرى بالضبط في "اليمن" فقد بدأت ثورة الشباب في ٢٧ يناير ٢٠١١ بمظاهرات في جامعة صنعاء، مطالبين برحيل "على عبد الله صالح" الذي استوعب دروس مصر وتونس، فأعلن أنه لن يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية، ولن يورث الحكم لابنه "أحمد"، غير أن الأمن المركزي استخدم العنف ضد المتظاهرين.
فقتل ٥٢ منهم، لتبدأ مسيرة السقوط والدمار، ورغم كل هذه الدروس الساخنة راحت "جماعة الإخوان" تزهو بتعال وترفض منطق المشاركة، وتصر على مبدأ المغالبة، وإنحاز "محمد مرسي" لجماعته التي لم تكن مهيأة للحكم، وخاصة في بلد بحجم وأهمية مصر..
وكان أن أعطي لنفسه حقوقا شبه إلهية، بتحصين قراراته من أي نقد أو مراجعة، وكأن البلد تخلصت من ديكتاتورية دستورية لتدخل الاستبداد الديني.
ورغم كل ذلك فالأمر المؤكد أن السلطة في العالمين العربي والإسلامي لم يقرأ أحد منهم لماذا سقطت الخلافة العثمانية والقضاء عليها في مؤتمر "لوزان"، نتيجة هزيمة المحور في الحربين العالميتين، والتي شاركت فيها الدولة العثمانية مع المحور، وقبل ذلك توغلت فرنسا وبريطانيا في دول الخلافة، وسعي الولايات إلى الاستقلال الذاتي نتيجة لضعف ووهن الخلافة في آخر عهد السلطان "عبد الحميد".
وقبلها سقطت دولة الأندلس بعد ٧٧٠ سنة من الحكم الإسلامي، نتيجة حروب ملوك الطوائف، وتغليب المصالح على المبادئ وتدخل النساء في كواليس الحكم، وإسناد المناصب المهمة لأهل الثقة والتخلي عن أهل الخبرة، وذلك لأن أحفاد بني أمية لم يتعلموا دروس أجدادهم.
فقد سئل بعضُ شيوخ بنى أمية عقب زوال الملك عنهم إلى بنى العباس: «ما كان سبب زوال ملككم؟.. قالوا: "إنا شُغِلْنا بلذاتنا عن تفقُّدِ ما كان تفقدُه ويلزمنا، فظلمنا رعيتنا فيئسوا من إنصافنا، وتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فتخلَّوا عنا، وخرُبت ضياعُنا فخَلَتْ بيوتُ أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا، وأمضوا أمورًا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعادينا فتضافروا معهم على حربنا، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أَوْكَد أسباب زوال ملك".. ولا تزال كل تلك الأسباب قائمة في معظم العالمين العربي والإسلامي.