هل من حق القاضي أن تكون أحكامه نافذة؟
القضاة نخبة من رجال الأمة، أشربت نفوسهم احترام القانون وانغرس في قلوبهم حب العدل، وهم بطبيعة وظيفتهم يؤمنون بمبدأ المشروعية، فلا يقدر لهذا المبدأ قيام واستقرار إذا لم يوجد قضاء حر مستقل يحميه من الاعتداء ويدفع عنه الطغيان.
ولكي يتاح لمبدأ المشروعية أن ينتج كافة آثاره يجب أن توجد سلطة قضائية قوية من رجال ذوي كفاءة مستقلين عن السلطة السياسية، ويتعين الاعتراف بأن الأحكام التي يصدرها هؤلاء الرجال هي أحكام واجبة الاحترام من الحاكم والمحكوم على السواء.
ذلك كله يقتضي أن تنفذ الأحكام بمعرفة السلطة المختصة بتنفيذها، فالإخلال بذلك يصير بمبدأ المشروعية إلى العدم، ومن حق القاضي أن تكون أحكامه محترمة ونافذة، وعلى الدولة أن ترعى قضاءه وتحترمه وتقدره وتقوم على تنفيذه، وعلى السلطة المختصة أن تقبل حكم القاضي سواء كان لها أو عليها، وسواء كان يرضيها أو لا يرضيها.
وفي هذا الشأن أذكر لأحد شيوخ القضاء قوله: (هذا قضاؤها، هي علمته وهي دربته وأهلته، وهي ولته فأصبح مختصًا ومتخصصًا لم يبق إلا أن تمكن له وتحتكم إليه وتنزل على حكمه).
هذا ما تقتضيه روح العدل وسيادة القانون ومبادئ الحرية والديمقراطية، أما أن تنزل الجهات العامة على حكم القضاء إذا كان في جانبها وتغفله أو تعمد إلى تأويله إذا كان في غير صالحها، فذلك من شأنه أن يشوب استقلال القضاء ويضعف هيبته وفعاليته، وقد يذهب بجدوى النظام القضائي ويقلل من اطمئنان الناس إليه.
وقد استقر قضاء مجلس الدولة على أن الامتناع عن تنفيذ حكم حائز قوة الشيء المقضي به هو مخالفة قانونية صارخة تستوجب المساءلة، حيث لا يليق بحكومة بلد متحضر أن تمتنع عن تنفيذ الأحكام النهائية بغير وجه قانوني لما يترتب على هذه المخالفة من إشاعة الفوضى وفقدان الثقة في سيادة القانون.
ولقد قام النظام العام للمجتمع الإسلامي على أساس راسخ يتفق مع سيادة الشريعة واحترام أحكام القضاء، ويقول الحق تبارك وتعالى للقاضي الأول محمد ﷺ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
وقد أورد الدكتور عبد الرازق السنهوري، أحد أعلام الفقه والقانون في الوطن العربي، في مقال له منشور بمجلة "مجلس الدولة"، عدد يناير 1952 قولًا مأثورًا أبرز فيه دور القضاء ورجاله في تأمين مبدأ المشروعية والضمانات التي تكفل أداء هذا الدور على الوجه الأكمل.. مشيرًا إلى أن الديمقراطية في أشد الحاجة إلى رقابة القضاء، والدواء الناجح لهذا الحال هو العمل على تقوية السلطة القضائية واستقلالها.. وللحديث بقية.