رئيس التحرير
عصام كامل

على حزين يكتب: فيزا كارت.. (قصة قصيرة) (1 - 2)

على حزين
على حزين


جلس مهمومًا مغتما يضرب كفًا بكف، وفي رأسه أخماس في أسداس، فالعيد على الأبواب، وأولاده الثلاثة يلزمهم كسوة العيد، والجيب خاوٍ، والعين بصيرة واليد قصيرة، أخذ يدبر حاله، وهو يفكر كيف؟! ومن أين يأتي بالنقود التي سيشتري بها كسوة العيد لأبنائه الصغار وأمهم؟! عودهم كل عام أن يجلب لهم الثياب الجديدة، طقمان لكل منهم، ولا ينسي أن يكسو أم الأولاد أيضًا، ثم يذهبون بكسوتهم هذه للمدرسة. 

تعود أن يصحبهم قبل العيد بأسبوع أو أسبوعين، يدور بهم على المعارض الشعبية والبائعين الجائلين، وعربات الملابس الجاهزة التي تحتل الأرصفة، ضرب يده في جيبه، أخرج حافظة نقوده، عد النقود الزهيدة التي فيها، تمتم:

ــ ستفرج إن شاء الله تعالى.

نهض.. اتجه صوب المكان الذي يحتفظ فيه بمبلغ من المال ــ للظروف ــ وللحالات الطارئة، فالناس لم تعد تعطي أحدًا أو تقرض أحدًا، للحظة مر بباله يوم احتاج لعشرة جنيهات لأمرٍ ما، يومها لف البلد على رجليه، يبحث عن أحد يعطيه سلفة فلم يجد، وتذكر أيضا لما مات والده، وكان يحتاج إلى عملية جراحية تحتاج "ألفين من الجنيهات"، فلم يجد من يعطيه، حتى أنه طرق كل باب للأقرباء، والأهل، والجيران، حتى أبواب أهل الخير وقف عليها، ولم يدعها، لكن للأسف لم يعطه أحد، ولم يعش والده طويلا بعد ذلك، وابنه الصغير كان يحتاج إلى عملية هو الآخر قبل موته. دارت في رأسه أحداث كثيرة متشابهة.

لأجل ذلك تعلم الدرس جيدا، واستوعبه، وعرف أن الإنسان لا يساوي في هذا الزمان إلا ما يملكه من مال، وأن أحدًا لا يعطي أحدًا شيئًا، لذلك قرر أن يقتطع جزءًا من راتبه كل شهر، يضعه في مكان أمين:

ــ المبلغ ضعيف لا يكفي لأن أكسوهم مثل كل سنة! 

قرر أن يتنازل هذه المرة، ويشتري لكل واحد من أبنائه الثلاثة، طقمًا واحدًا فقط، لحين ما تفرج، أما زوجته فقد قرر أن يترك كسوتها هذا العام لبيت أبيها، فهم لم يفعلوا ذلك منذ أن تزوجها، وافترض أنها ستزعل منه، وكذا الأولاد ربما لا يعجبهم هذا القرار المجحف، ولكن ما باليد حيلة، وبعد تفكير عميق، قرر أن يخبر زوجته وأولاده بنيته، وهو في طريقه عبر بهو الشقة، سمع صوت المذياع في نشرة الأخبار، وهو يقول: 

ــ " بيان هام، وعاجل، الحكومة قررت صرف الراتب في هذا الشهر مبكرًا، وقبل العيد، وذلك في إطار ما تقوم به الدولة لتخفيف العبء عن المواطنين".

أسرع إلى التلفاز ليتأكد من الخبر، وقد تهلل وجهه، وانفرجت أساريره فرحًا، وهو يردد من اللاشعور قولته المعتادة..

ــ يا ما أنت كريم يا رب.. فرجت.. فرجت والحمد لله.

قالها وكأن يداه وقعدت على كنز ثمين.. ولم لا وهو لا يملك إلا راتبه الهزيل، وبرغم ضعفه، وضآلته إلا أنه يقيم أوده، وأفضل من مد اليد، اقترب من درجة مدير عام، وكم عام ويخرج على المعاش، وما زال راتبه لا يتعدى الثلاثة آلاف جنيه، هذا كل ما يمتلكه في هذه الحياة، فلا ورث ولا صنعة، ثلاثة آلاف جنيه فقط لا غير، وذلك بعد الخصومات والضرائب، وقسط البنك الذي جلبه على ضمان راتبه ليتلقى البيت الذي يعيش فيه مع أولاده من اخوته، معه من الأولاد ثلاثة بنت وولدان، وأما الولد الثالث توفاه الله بعد معاناة، وصراع مرير مع المرض.

أخرج ورقة وقلمًا، ثم جلس يحسبها مع نفسه، جمع كم معه من نقود، وكم سيقبض من راتبه، ثم وضع أرقامًا لشراء كسوة العيد، وكم سيتبقى معه من نقود لباقي الشهر، والشهر القابل تلك طريقته وهذه عادته، وهذا ديدنه في الحياة كلها، قبل كل شيء، لابد أن يحسبها، عنده كل شيء محسوب بالورقة والقلم، كل شيء يضع له خطة، ثم يجعل له ميزانية خاصة به، فهو رجل ذكي، متكيف مع ظروفه كلها، ومطوع حياته على هذا النحو، وعلي الراتب الزهيد الذي يتقاضاه، لو قسم على خمسة أفراد، هو وزوجته وأولاده الثلاثة، ستجد أن نصيب الفرد الواحد منهم عشرون جنيهًا في اليوم والليلة، ومطلوب منه أن يعيش به، ويدير منزله ويرعى به أسرته، مع دروس للأولاد، على مصاريف للمدارس، على كسوتهم، وعلاج لا قدر الله، ومياه ، وكهرباء.. و.. و..إلخ.. إلخ..؟!.. 

فإذا ما سأله أحد كيف يعيش بهذا الراتب الزهيد في ظل هذا الغلاء الفاحش؟!.. دائمًا تسمعه يردد، وهو يبتسم:

ـــ أهه عايشه والحمد لله، وربنا يبارك في القليل، وماحدش بيبات من غير عشا وما حدش بيأخد غير نصيبه..إلى غير ذلك من الأسطوانة المحفوظة لدى الناس الطيبين المساكين الذين يكملون عشاهم نوم.

اتجه صوب الدولاب، الذي اشتراه من بائع الموبيليات المستعملة، فتح ضلفة بسرعة، وتوتر، كي يرتدي جلبابه الوحيد، والذي قد أعده لمثل هذه المشاوير المهمة، فهو بعد قليل سيقف أمام "ماكينة الصرافة" وسيضع"الفيزا كارت" الخاصة به، والتي لا يعرف كلمة سرها إلا وهو، وزوجته المصون، ارتدى حذاءه القديم، الذي لم يزل فيه الرمق، والذي اشتراه منذ سنين طويلة، وبعد إلحاح من زوجته، التقط حافظة نقوده بسرعة، فبعد خمس دقائق سيكون في الشارع، أخبر زوجته بأنه ذاهب لإحضار راتبه الشهري، ودعته بابتسامة جميلة، مع طلبات شراء لبعض المستلزمات الضرورية للمنزل:

ــ ربنا يكفيك شر الطريق ، وأولاد الحرام، وتعود لنا بالسلامة يا رب.. 

وقف في طابور طويل، أمام ماكينة الصرافة الوحيدة في الشارع، ينتظر دوره.. عدَّ الواقفين أمامه، وحسب في رأسه حسبة بسيطة، وافترض، لو أن كل واحد أمامه سيأخذ دقيقة، أو دقيقتين، سيقف ساعة تقريبًا، فكر أن يعود إلى المنزل، ويأتي في وقت آخر، لكنه أقنع نفسه، بأنه لو عاد في وقت آخر، ربما لا يجد المال في الماكينة، أو ربما يجد زحامًا أكثر من هذا، فالعيد على الأبواب، وقد حدث معه هذا من قبل، أكثر من مرة.

أصوات الناس الواقفين أمامه، ومن خلفه تختلط بأصوات كلكسات العربات، بالكاد كان يصله بعض الجمل، والحوارات، من بعض الناس الواقفين، المتزاحمين، المتذمرين، الساخطين على العيشة ، والدنيا ، والحياة ، وذلك من نوعية..

ــ الأسعار نار والمرتب لا يكفي لآخر الشهر.. 

فيرد عليه آخر وهو يضحك، وقد رفع صوته، وهو ينظر إليه، وكأنه يريد أن يسمعه، ليشارك في حوارهما
ــ لازم نستحمل عشان البلد تقوم على رجليها ، ونبني بلدنا..

فيرد ثالث، وقد بدا في صوته شيء من الحدة، والسخط على كل شيء:
ــ اللحمة غالية ، والفاكهة غالية ، وكل شيء غالي، والحياة كلها بقت غلا، وبلا !

آخر يقول، وقد أخذ مكان الذي تقدم أمامه:
ــ يعني هو الفقير هو وحده اللي يستحمل، ما في ناس فوق عايشة، وناس تانى بتموت مش لاقية حق الدواء، ولا ثمن الأكل، الناس بتأكل من الزبالة.. 

يرد الأول وهو يضحك بخبث:
ـــ تقسيمة ربنا؟ أنت بقى ها تكفر.. ربنا قال وجعلنا بعضكم فوق بعض طبقات.. 

صحح له من بجواره وهو يبتسم:
ــ درجات 

وهو ما زال مرابطًا في مكانه، يصله صوتهم أحيانًا، ويغيبه الخوف من الرقيب والضجيج أحيانًا أخرى، يمسك بطاقته "الفيزا كارت" بيده، وهو لا يبالي بما يقال، ولا بما يدور حوله، كل هدفه أن يصل راتبه إلى يده، وليس في رأسه شيء يدور، إلا كم بقي أمامه حتى يصل إلى دوره، ويقف أمام الصراف الآلي، ليقبض راتبه، ويعود إلى البيت، حتى يحضر مستلزمات الإفطار للأولاد، فقد وعد زوجته، بأنه سيحضر لهم كيلو من الفاكهة، عندما يعود براتبه، كما تعود على هذا دائمًا، أول كل شهر..
الجريدة الرسمية