عندما يموتُ الموتُ

يطفئُ الموتُ ما تضيءُ الحياةُ، ووراءَ انطفائهِ ظُلماتٌ. يقسو الموتُ فيضربُ ضربته ويمضى في هدوءٍ، لا يشغلُه حُزنُ الحزانى ولا صريخُ الثَّكالى ولا بُكاءُ اليتامى، فلكلِّ أجلٍ كتابٌ. ليسَ هناكَ أغربُ من الموت. إنَّهُ حادثٌ غريبٌ، أنْ يصبحَ الشيءُ لا شيئا. ثيابُ الحدادِ والسُّرادق والمباخر والموسيقى. ونحنُ كأننا نتفرجُ على رواية، ولا نُصدِّقُ، ولا أحدَ يبدو عليه أنه يُصدِّقُ.

نُغالى في كراهيةِ الموتِ كراهيةَ التحريم، ونعلّلُ بالدّواءِ إذا مَرضنا، فهل يشفي من الموت الدّواءُ؟ ونختارُ الطّبيبَ، فهل طبيبٌ يؤخّرُ ما يقدّمه القضاءُ؟

الموتُ كأسٌ، وكلُّ الناس شاربُه. وما نحنُ إلا ودائعُ، وَلابُدَّ يومًا أنْ تُرَدَّ الوَدائِعُ. واخترْ لنفسكَ منزلًا تعلو به أو مُتْ كَريمًا تحتَ ظلِّ القسطلِ. فالموتُ لا يُنجيكَ من آفاتهِ حصنٌ، ولو شيدتَهُ بالجندَل. كُنْ مُستعدًا دائمًا لاستقبال الموتِ، صغيرًا كنتَ أو كبيرًا، صحيحًا غدوتَ أو عليلًا. لا يغرَّنكَ مالٌ أو جاهٌ أو عافيةٌ، فموتُ الفتى في عزةٍ خيرٌ له من أن يبيتَ أسيرَ طَرْفِ أكحلِ. وكم منْ عزيزٍ أذلَّ الموتُ مصرعَه، كانت على رأسهِ الرّاياتُ تخفقُ.

يا نفسُ.. توبي فإِنَّ الموتَ قد حانَ، واعصِى الهوى؛ فالهوى ما زال فَتَّانًا. في كلِّ يومٍ.. لنا مَيْتٌ نُشيِّعهُ، ننسى بمصرعهِ آثارَ مَوْتانا. واعلمْ، إنْ لم تكنْ تعلم، أنه لا بدَّ من موتٍ، ففكرْ واعتبرْ وانظرْ لنفسِكَ، وانتبهْ يا ناعسُ. ولا تجعلْ الدُّنيا تشغلك عن لحظةِ النهاية وما بعدَها، وقدِّمْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ في مَهَلٍ؛ فإِنّ حظّكَ بعد الموتِ منقطعُ.

نكرهُ الموتَ؛ باعتباره هازمَ اللذات، ومُفرِّقَ الجماعاتِ، ولكنه غيرُ مشغول بهذه الكراهية، ويعملُ في دأبٍ على قبض الأرواح، أينما كانت، وأينما حلَّتْ، ولو استعصمتْ في بروج مُشيَّدة. كفى بالموتِ واعظًا، ولكنَّ بعضَنا لا يتعظُ ولا يعتبرُ، فلِكُلِّ نَفسٍ - وَإِن كانَت عَلى وَجَلٍ مِنَ المَنيَّةِ- آمالٌ تُقَوّيها، فَالمَرءُ يَبسُطُها، وَالدَّهرُ يَقبُضُها وَالنَّفسُ تَنشُرُها وَالمَوتُ يَطويها.

ألا أيُّها الموتُ رفقًا بنا، وخفِّفْ من قسوتك وبطشِك وعُنفك ومفاجآتك الصادمة. هل تعلمُ أيُّها الموتُ، كم تمنيتُ لو أنى عاصرتُ موتك، وشاهدتُ نهايتك المحتومة، لأراك رأى العينِ، وقد ذُقتَ مما أذقتَنا، وربما كتبتَ في رحيلك نعيًا يتحاكى به الإنسُ والجانُّ.
نعمْ.. سوف يموتُ مَلكُ الموتِ يومًا، ولكن – من حُسنِ حظِّه، فإنه سوفَ يكونُ الأخيرَ في هذا الكون، عندما يفنى جميعُ الخلائق، من ملائكةٍ وبَشَر، ولا يبقى سواه، فيقولُ اللهُ له: "يا ملكَ الموتِ.. مُتْ"، فيموتُ، ولا يبقى سوى الحىِّ الذي لا يموتُ.

إذنْ.. هي الدنيا الزائلة، والحياة الفانية، التي لو أدركنا حقيقتها، ما تصارعنا ولا تقاتلنا، ولعشنا في سلام ومودةٍ، ما تبقى من أعمارنا، طالتْ أو قصُرَتْ.

في كلِّ يومٍ تمرُّ بنا النعوشُ، ونسيرُ في الجنازاتِ، وندفنُ في المساءِ، من كانوا حتى الصباح أحياءَ، ثمَّ سرعانَ ما ننسى كلَّ شيء، ونعود إلى سيرتنا الأولى من التدنى والتردى والارتماء في أحضان الملذات والشهواتِ الزائلةِ.

وأخيرًا.. فإنَّ هذا الموتَ يكرهُه كلُّ مَنْ يمشي على الأرض، ولو نظروا بعين العقل لرأوه الرَّاحة الكبرى. واعملْ لآخرتِك، ولا تستبعدْ لحظةَ الرحيل، فعلمُ ذلكَ عندَ اللهِ، فكم من عروسٍ زينوها لزوجها، وقد قُبضتْ أرواحُهما ليلة القدْر. واعلمْ أنه لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها إِلا التي كانَ قَبلَ الموتِ بانيها، فَإنْ بناها بِخَيرٍ، طابَ مَسكَنُها، وإن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها.