محمود عبد الدايم يكتب: «الزاوية الرابعة»
مساحة رمادية وضعَتْني فيها الزجاجةُ الأولى التي قضيْتُ عليها الآنَ.. من نوعيةِ المساحاتِ الّتي لا مكانَ فيها لأحدٍ آخرَ.. مساحة تكونُ فيها وحيدًا.. مستمتعًا بوحدتكَ تلكَ.. مُراقبًا زوايا الدنيا الثلاثَ الباقيةَ، بعدما فرضتَ سيطرتَكَ على الرابعةِ.. الأكثر ظُلمًا وانزواءً.. الزاوية الميتة التي تمنحكَ متعةَ مراقبةِ بقيةِ أحياءِ الزوايَا الثلاثِ الباقيةِ.. المنتعشة بِمَنْ أقبلَ ومَنْ أدبرَ.
سنواتي الطويلة مختفيًا في زاويتي المظلمة منحتْنِي أفضليةً لدى الجميعِ.. أمي.. فلم أكنْ ولَدًا طائشًا يرهقُها.. وأبي لم يشغلْ بالَه كثيرًا بطفلٍ لا يتحركُ كثيرًا مكتفيًا من سنواتِه بالتحديقِ والصمتِ.. ومنحتْ أشقائِي فرصةً جيدةً للتمتعِ بحريتهم في الزوايا الثلاثِ.
كبرتُ.. وبقيتُ صديقًا وفيًّا للزاوية الرابعة.. وكنت زبونًا جيدًا.. أدخلت السعادة على الجميعِ.. مدير المكان لم يُخفِ غبطتَه بي، بعدما وجدَ من يملأُ الطاولةَ التي لا يقربُها عشاقُ الليلةِ الواحدةِ.. سماسرة الليلة الواحدة.. ونساء المرة الواحدة.. الجرسون كانَ سعيدًا هو الآخر.. يضمنْ زبونًا صامتًا لا يغضبُ من تأخر زجاجاته المتتالية.. لا يعلو صوته بعدما يكتشف فأرًا ميتًا في الزاوية أشاعَ في المكان رائحةً كريهةً.. بغيضة.. وأنا.. الزبون.. لا أحدَ يُعكّرُ صفوَ جلستي وحيدًا.. أو يرقبني.. صفقة لم يخسرْهَا أحدٌ.. حتّى الآن..!
في موعدِي اليومي حللتُ.. لا سُكارَى وصلَوا المكانَ.. الطاولاتُ الفارغةُ في انتظارِ منْ يُطفئُ لمعتَها المُصطنعة.. يمنحُها قذارةً فجةً بلمسةِ يدٍ في موضعٍ غير القلبِ.. في انتظارِ الهاربينَ من هناكَ إلى هُنا.. الحالمينَ بأيِّ شيءٍ ولَا شيء.. اتجهتُ إلى طاولتِي.. زاويتِي.. وانزويتُ.. احتسيتُ زجاجتي الأولى بنهم.. عطش يضرب جذورَه بوجعٍ في روحي.. يجعلُني على الدوامِ طامعًا في مزيد من الشراب المُر.
اعتدتُ في لحظاتِ الخواءِ تلك مراقبةِ نفسي.. منحتُها نظرةً متأنيةً في مرآةِ زاويتي الباهتةِ.. طبعتُ على خدي الأيمن قُبلةً.. أرسلتُ للأيسرِ شقيقتَها في الهواء، وأرفقتُها بمقطعٍ غيرِ مكتملٍ لأغنيةِ «أهو ده اللي صار».. وعدتُ من جديدٍ إلى الانزواءِ في مملكتِي.. زاويتِي.
«لم تكنْ تنتمي إلى المكانِ».. هيئتُها أكدتْ نظرتِي الأولَى إليها.. تابعتُ طريقةَ جلوسِها.. سيدةٌ أرستقراطيةٌ وليست امرأةً اعتادتْ الجلوسَ على المقاعدِ الخشنةِ.. الهشّةِ.. المقاعدُ التي تجعلكَ دائمًا على موعدٍ مع سقوطٍ متوقعٍ.. طريقتُها في التقاطِ سيجارتِها.. انتظارُها لثوانٍ، كَمَن اعتادَ أن يكونَ هناكَ آخرُ يُشعلُ له السيجارةَ.. وفشلها في الحصولِ عليْهِ.. حتّى طريقتها في الإمساكِ بالزجاجةِ.. إفراغِ الشراب.. نقلِها الكأسَ من فوق الطاولةِ وتمريرها برقة على شفتيها الغارقتينِ في بحرٍ من «الأحمر» المثيرِ.. كلّ أشيائِها لم تكن تنتمي إلى المكانِ هنا.. لكنَّها الآن هنا..!
وجدْتُني أغوصُ في تفاصيلِها.. أحفظُ طريقتَها في التقاطِ السيجارة.. ارتشافِ الشرابِ المرِّ.. وعندما حاولتُ تحريكَ مؤخرتي تجمدتُ في مكاني.. كانتْ تبكِي.. لمحتُ دمعةً على خدِّها الأيمنِ.. حفرتْ طريقَها بوضوحٍ.. تراجعتُ.. أكرهُ الدموعَ.. أكرهُ البكاءَ.. أكرهُ الحزنَ.. لأنني أعرِفُهُ ولهذا أكرَهُهُ إلى حدٍّ لم أصلْ إليهِ حتّى يومي هذا.
منتصفُ الزجاجةِ الثانيةِ وجدْتُني جالسًا إلى جوارِها.. قريبًا إلى الدرجةِ التي لاحقتْني فيها أنفاسُها الدافئةُ. تاهتْ معالمُ المكانِ في دوائرِ دخانِ سيجارتها الذي حرّرتْهُ من فمِها، خرجَ ملتحفًا رائحة «الروج المثير».. معبقًا بعطرها.. لثوانٍ اختفَى العالمُ، ووجدْتُني أطفو على سطحِ محيطِها الأزرق.. المتّسع.. العميق.. فتحدثتُ.. بل اعترفتُ.. قلتُ لها:
أعترفُ.. أنا رجلٌ سيئٌ إلى درجةٍ قصوى من السوء.. لا أعرفُ شخصًا أسوأَ مني.. لم أقابلْه حتى الآن.. الحكايات التي كانت ترويها جدتي عن الأشرار لا تقترب – ولو قليلًا - من مهاراتِي في تحطيمِ سفنِ الفرصِ الجيدةِ على شواطئِ حقارتِي.. جيدًا جدًا كنتُ في إدارة الدفة ناحية الصخور الصلبة.. البارزة.. لم أجدْ متعتَي سوى على الشواطئ المهجورة.. مارستُ حماقاتي على الجميع.. أبي.. أمي.. أشقائي.. قطط الشارع.. الكلاب الضالة.. سلحفاة صديقتي.. مارستُها بوقاحة فظيعة.. والآن.. اعترف أنني لا أصلحُ إلا أن أكون القرصان الوحيد، بلا طاقم يساعده في إدارة شروره.. توزيعها على الشطآن الآمنة.. قرصان تائه.. ضعيف.. بلا مخلب حديدي يلمع تحت أشعة شمس الظهيرة في يده اليسرى.. أو زجاجة خمر في اليمنى.. أو عين تغطيها عصابة سوداء.. قرصان.. أسوأ من أن يكون «قرصان».
قضيتُ على الزجاجة الثانية التي رافقتني في رحلتي من طاولة الزاوية المظلمة.. لم أسمعْ صوتَها حتى الآن.. كنتُ أشعرُ بيدها تمرُّ على قلبي.. سمعتُ صوتَها يهدهدُني بأغنية ذات مفردات طفولية.. تأرجحتْ روحي بين كفيها.. أغمضتُ عيني.. لم أنمْ.. بل أكملتُ الحكايةَ:
على فتراتٍ متقطعةٍ.. تنتابُني رغبةٌ أن تقابلَني فتاةٌ.. امرأةٌ.. تقبلني كما أنا.. بشعيراتِ ذقنِي البيضاءِ النافرة.. عيني اليسرى التي تحيد عن مسارها الطبيعي.. أصابعي النحيلة.. البشعة.. رائحة فمي الكريهة حد النفور.. الكوارث التي يطلقها لساني.
تجاهلتُ استياءَ مدير المكان وهو يراقبني في زاويتي الجديدة.. تغاضيت عن الشتيمة التي ألقاها الجرسون وهو يضع لي الزجاجة الثالثة.. الملعون يحسدني على المرأة التي قبلت أن أجالسها.. وأنا رجل الزوايا المظلمة.. نسيت الحماقات التي طافت حولي وقتها، وتملكتني رغبة في الكلام.. كلام.. كلام.. كان يخرج من فمي.. الخدر الذي تسرب إلى أطرافي لم يصل إلى لساني.. تركته يكمل:
طالعت وجهي في صباحات كثيرة منعكسًا على نصف مرآة الحمام الذي ينجو دائما من معارك التحطيم.. كنت قبيحًا جدًا.. كنت أقبح من الداخل.. لكنَّ ظلًا باهتًا كان يتأرجح ورائي.. يمنحني قوة لأرغب في امرأة تَقبلنِي.. تعرفني.. امرأة لا تكون في مثل حقارتي.. واليوم.. وأنا أخطو على أعتاب الأربعين لا أزال وحيدًا.. مصابًا بالحول.. أصابعي بشعة.. فمي ينفث راوئح كريهة وكأنه فوهة بركان من النفايات.. لا زلت قبيحًا.. وقحًا.. ندلًا مع الجميع.
«كل امرأة أبحثُ فيها عن أمي».. حاولتُ كثيرًا التخلصَ من العادةِ تلك، فأمّي لا شبيهةَ لها، ونساءُ القاهرةِ لا يَصلحْنَ للعبِ دورِ الأمومةِ، فما بالكَ بامرأةٍ تُشارككَ الشرابَ، لكنني لمحتُ طيفَ أمّي في عينيها.. صافيتين كانتا.. هادئتيْنِ. مريحتيْنِ.. فقلتُ لها:
طيبة أمي إلى حد السذاجة.. طالعت وجهي طوال عشرينَ عامًا ولم ترني قبيحًا.. لعلّها رأتني.. لعلها انتحبتْ ليالي كثيرة.. ومن بين دموعها سألتْ إلهَها لماذا وضعَها في المأزقِ الشنيع هذَا.. لماذا اختارَها دونَ غيرِها من النساءِ بطفلٍ بشع؟! تحملتْ أمي نزواتي.. حماقاتي.. نوبات غضبي الطفولي.. محاولاتي الدائمة لأن أجعلَها تحمل وزري.. أذكر يومًا صرخت فيها.. كنت عائدًا من الخارج بجرحٍ غائرٍ في منتصف الجبهة.. نجتْ منه العين الطيبة بأعجوبة.. وقد جفَّ خيطُ دمٍ أحمر على خدي الأيمن.. أوجعتني الضربة كثيرًا.. لم أردها إلى صاحبها..
كانوا عشرة أطفال.. طاردوني طويلًا.. لا زلت أذكر كل شيء.. أصوات ضحكاتهم في أذني.. سخريتهم من وجهي.. أصابعي.. عيني.. كراهيتهم الكاملة لي.. وعندما أوشكتُ على السقوط.. التداعي.. ألقمني أحدُهم حجرًا.. أصابني.. أسقطني.. يومها رفضتُ مجرد أن تقترب من جرحي.. أخبرتها أنها السبب.. أنها القبيحة التي أنجبت قبيحًا.. الحولاء التي أورثتْني عينًا منكسرةً.. شاردةً.. لم يكن لي أبٌ لأطالع وجهه.. لعله كان جميلًا.. وإن كان قبيحًا مثلي.. كنت سأمنحه نصيبَه من الشتائم.. كان سيحصل على قليلٍ من قُبحي.
لم أسمع صوتها طوال الدقائق الطويلة الماضية.. كنت ألمحها بين الكلمات.. أخفت ثلاثَ مراتٍ دموعَها.. ضحكتْ بلا صوتٍ على سقوطي.. مثلمَا فعل الأولادُ العشرة..!
استأذنتْني في الذهابِ لحمامِ السيدات.. صدقتُها.. حملت حقيبتها.. أطفأتْ سيجارتها.. ولتمنحني قليلًا من الاطمئنانِ تركتْ خاتمها الفضي على الطاولة.. يحرسني ويهبني أملًا باكمتالِ اللقاء.
غفوتُ.. لدقائق.. أفقتُ على صوت المديرِ يطالبني بالرحيل.. سألتُه عن المرأةِ.. عن الحسابِ.. ضَحِكَ مُوليًا ظهرَه ساحبًا ضحكاته الساخرة وراءَه..!
الآن أجلس في الطاولة المضيئة.. الزاوية اللامعة.. أحملق في الخاتم الفضي.. قربته من أنفي بحثًا عن رائحتها.. كان خاتمًا محايدًا.. لا ينتمي إليها.. خاتمًا بلا رائحة.. بلا آثار.. بلا ذكريات معها..
بنصف وعي أدرت عينيّ في المكان.. فتشتُ عنها.. مررتُ على حمام السيدات.. كان قذرًا.. أكثر قذارةً مما كنتُ أتوقع.. عدتُ إلى طاولتي.. وضعتُ الخاتمَ الميتَ على الطاولةِ.. رفعتُ كأسَها.. قربتُها من أنفي.. لم يكنْ حالها أفضل من الخاتم.. كانت كأسًا عاديةً.. بحثت عن موضع شفتيها.. فتشتُ عن بقايا «الروج».. الزاوية التي عانقت الشفاهَ الورديةَ.. لم يكنْ هناكَ إلا شفافيةَ الزجاج..
فشربتُ على مهلٍ ما تركتْه في كأسها قبلَ أن تذهبَ إلى حمامِ السيداتِ.. وأغمضتُ عينيّ وأسدلتُ الستارَ على الحكايةِ، مُقلدًا صوتَ الراوي وقلتُ:
«اكتبْ كي لا تكونَ وحيدًا».. قالتها أمّي يومَ جُرح رأسي.. لكنني كنتُ قبيحًا حتى في الكتابةِ.. كتبتُ عن جارتِنا.. أحصيتُ مرّات دخولِها الحمام.. استقبالها الغرباء.. مشادّاتها مع زوجها.. ونسيانها ابنتها الوحيدة التي لا تشبه أبيها في التاكسي، ولولا أن سائقه كان فقيرًا لما أعادها بعد 10 دقائق، ليرحمنا من «الولولة» الكاذبة التي أطلقتها على درجات سلم العمارة.. ويحرمنا من لحظاتِ عُري صدرها.. فخذها.. والبياض الذي انعكسَ نورُه على حدقاتِ أعينِ المارة.. والسكانِ.. وأنا..!.. كُنتُ وقحًا في الكتابة.. فاخترتُ الوحدةَ.