ما فعلته بنا الأغاني!
كنا صبية نحلم بفتاة الأحلام، في ظل مجتمع كان يفرض –وقتذاك– قيودًا صارمة على العلاقات، وجماعات متطرفة تنتشر كالسرطان، معتبرة أن مهمتها المقدسة هي فصل الرجال عن النساء، لأن اختلاطهم هو سبب نكبة الأمة التي ضحكت من جهلها الأمم، في هذه الأجواء كانت الأغاني هي الملجأ والملاذ!
نجتمع كل يوم، وقبل الساعة الخامسة، نضبط مؤشر الراديو على إذاعة صوت إسرائيل، حيث تشدو السيدة أم كلثوم بوصلة يومية، نغني معها، ونرقص على أنغامها مع فتاة أحلام رمادية غائمة الملامح، مثل عرائس البحر اللاتي سمعنا عنهن في حواديت جداتنا، تخرج الحبيبة المجهولة إلينا عبر الأثير، فتغني معنا، وتراقصنا، تنعش قلوبنا البكر، وتروي ظمأنا إلى لحظة حب، وقصة غرام، ثم تنتهي أم كلثوم من وصلتها الغنائية، فيبث راديو إسرائيل نشرة أخباره المسمومة!
بعد هذه الجرعة المكثفة من الرومانسية، يعود كل منا إلى واقعه حزينا بائسا، يبحث عن عروس البحر التي راقصته فلا يجدها، يفتش في الدائرة المحيطة فلا يجد سوى فتيات بائسات، خائفات، منكسرات، يعتبرن النظرة هتك لعرضهن، والحلم المشروع بالحبيبة كبيرة من الكبائر، تستدعي ذاكرة الطرفان – أولادًا وبنات– قصصا من الماضي القريب والبعيد، عن جرائم قتل وقعت بسبب جملة غزل ربما تكون بريئة، وحكايات ثأر استمرت لسنوات، لأن النظرة البريئة تطورت إلى لقاء، وعبارة الغزل العفيف تكاثرت وأصبحت جُملا كثيرة، كونت فيما بينها حكاية طويلة ومشوقة تناقلها الناس، ووضعوا عليها لمساتهم، وإضافاتهم، نتذكر ذلك فترتعش قلوبنا الصغيرة، ويلجم الخوف ألسنتنا، فنعود إلى إذاعة إسرائيل لننتظر بلهفة وصلة الست أم كلثوم!
لم تكن أعمارنا وقتها، ولا خبرتنا بالحياة تؤهلنا لإدراك حقيقة أن عروس البحر لا مكان لها إلا على وسادة الجدة وهي تحكي لنا حدوتة تخلصها من إزعاجنا فننام، أما الواقع فهو سجن كبير، يضمنا نحن الحالمين، مع جنس آخر لا نعرف عنه شيئا، ولا يعرف عنا شيئا، سجن فرضته تقاليد المجتمع، وزدنا نحن –بسبب خوفنا- أسواره ارتفاعا وتحصينا، فصارت قلوبنا كهوفا، وأحلامنا المشروعة أسرارا، وغريزتنا التي خلقها الله، مجرد قضاء للحاجة في الحمام!
في المقابل، فعل الفنان عبدالحليم حافظ في بنات أمتنا، ما فعلته أم كلثوم في رجالها، كل بنت كانت تحلم بأن تعثر على شبيه عبدالحليم، ويا حبذا لو عثرت على حليم نفسه، رومانسيته، ورقته، ودفء صوته، والحزن الشفيف الذي لا يفارق عينيه، كان عبدالحليم –بلغة زماننا الحالي– ملك السهوكة في عصره، وقد أدرك هو سطوته على قلوب العذارى، فراح يتعامل بأنفة الملوك، ونرجسية السلاطين، انظروا إلى حليم في بداياته، ستجدونه مطربا صاحب صوت جميل، ينتظر بلهفة رأي الجمهور في صوته..
بينما في أغنياته الأخيرة، ستجدون زعيما سياسيا وليس مطربا، يقف على منصة وليس على مسرح، عندما غني رائعة "قارئة الفنجان" تعمد أن يحذر الجمهور أولا من كلمات الأغنية، لأنها "صعبة وتحتاج إلى تركيز"، وعندما ضايقه بعض المتفرجين، وراحوا يطلقون صفيرا متواصلا عطله عن بدء وصلته، عاملهم بعنف وحدة، وأطلق صفيرا أعلي من صفيرهم، لكل ذلك لم يكن غريبا أن تنتحر بعض الفتيات حزنا على وفاته، أو بالأحرى حزنا على وفاة أحلامهن به، أو بشبيه له!
على صعيد الأغاني الوطنية حدث ولا حرج، بداية من الأغاني التي تمجد ثورة يوليو 1952، بشكل أخرج معظم تلك الأغاني من خانة الفن إلى خانة الإعلانات الدعائية، مرورا بأغاني ما قبل نكسة 1967، وهي الفترة الأكثر سخافة وكذبا وتزييفا لوعي الأمة التي ضحكت من جهلها الأمم، طوفان من الغناء الوطني المختوم بخاتم مجلس قيادة الثورة، حتى حدثت الكارثة، وخرج الزعيم جمال عبدالناصر يعلن تحمله مسئولية الهزيمة وتنحيه عن أي منصب رسمي..
ساعتها لم يكن من المناسب بالطبع أن تبث الإذاعة المصرية الأغاني التي تمجد الرئيس المهزوم، فكانت الأغنية الأكثر ملائمة هي أغنية الفنان محمد فوزي لمصر (بلدي أحببتك)، رغم أن فوزي –قبل النكسة- لم يشارك في مهرجان تضخيم ونفخ وتعظيم الزعيم، فتم تأميم شركته وتعيينه موظفا فيها!
ضاعت من العمر سنواته الأجمل، لكن قلوبنا ما زالت تنبض، ما زلنا نحلم بعرائس البحر الرماديات، برقصة على الماء مع حبيبة تشبه صوت أم كلثوم في جماله، وتفرده، وعمقه، ولهفته، ولا تشبهه في خداعه وتلونه، بحليم الصغير، صاحب الجسد الضئيل، والقلب الذي يسع داخله أحلام كل بنات حواء، حليم الذي يغني ليسعدنا، ويربت بيده الرقيقة على قلوبنا الموجوعة، لأننا نحتاجه مطربا، لا زعيما!
نحلم بوطن لا يسجننا داخله، لا يقهرنا بين أسواره، لا يعذبنا لأننا نحبه، ولا يقهرنا لأننا نريد أن نحميه، وطن يعرف ويقدر ويدرك ما فعلته الأغاني بأبنائه، ويعرف ويدرك أننا نريد بالفعل أن نغني له، لا أن نغني عليه!