في غرفة «رعاية مركزة»!
مجددا أعود للكتابة (لايف) التي حرمت منها على مدى نحو ثلاثة عشر يوما بسبب تلك الجراحة الكبيرة والدقيقة التي أجريتها.. والعودة إلى الكتابة مجددا بالنسبة لى أشبه بعودة الحياة لى مرة أخرى بعد فترة من المعاناة والألم بدأت منذ أفقت لأجد نفسى نائما في أحد أسرة العناية المركزة بالمستشفى الجوى التخصصي، لا أستطيع الحركة أو التقلب في الفراش، ومربوط بأسلاك مونتير يقيس الأجهزة الحيوية للجسم، مثل الضغط وضربات القلب، وكل الأحلام والأمانى تتركز وقتها فقط على التخلص من هذه القيود، وتحريك الأنامل وأصابع القدم!
في البداية يرى المريض من يتحركون أو يتواجدون حوله من الأطباء وأعضاء هيئة التمريض والأهل أشبه بالأشباح، يبذل جهدا عسيرا من أجل استجلاء معالم وجوههم، لأنه لا يكون قد آفاق بشكل كامل من التخدير الذي يسبق الجراحة، ولذلك لا يتذكر المريض أحيانا بعض من رافقوه في غرفة الرعاية المركزة في لحظاته الأولى بعد الاستفاقة والخروج من غرفة العمليات، وهذا ما حدث لى تماما، فإننى لم أتبين بعض الأصدقاء الذين كانوا برفقة ابنى "شهدى"، وهو ينتظر لنحو ثمانية ساعات خروجى من غرفة العمليات، وكان هو أول من أدركته عندما دخلت، أو بالأصح دخلت غرفة الرعاية المركزة.
ومع استعادة الإدراك واستكمال الإفاقة يجد المريض نفسه مشدودا لمتابعة حركة الأطباء وأسرة التمريض حوله، ثم متابعة أحوال جيرانه في غرفة العناية المركزة، لعلها تشغله لحظات عن معاناته وآلامه التي لا تقتصر فقط على آلام الجراحة، وإنما معها آلام الإحساس بأنه مقيد، ومحبوس في سرير لا يستطيع ليس مغادرته فقط وقتما يرغب في ذلك، وإنما لا يستطيع تحريك جسمه المربوط بأسلاك المونتير، أو الإحساس بالعجز وعدم القدرة على الإتيان بالأمور الطبيعية العادية في حياتنا، مثل تحريك يد أو قدم، وأنه في حاجة لمساعدة آخرين في كل شىء.. ولعل ذلك يوضح لنا لماذا اخترع البشر السجون والمعتقلات لمعاقبة من يقترفون جرائم أو حتى لخصومهم السياسيين.
لذلك فإن لحظة الخروج من غرفة الرعاية المركزة، رغم استمرار الآلام هي بالنسبة للمريض بداية حياة جديدة.. لأنها إيذان بتحرره من بعض القيود، والتخلص من بعض العجز، حتى ولو كان يحتاج لاستكمال العلاج لبعض الوقت الذي قد يكون أياما أو أسابيع أو شهورا.
وهكذا.. في وقت واحد تؤكد غرفة الرعاية المركزة كم يحتاج الإنسان للغير، وأن حياتهم لا تستقيم بدونهم، ولعل ذلك يحضنا على احترام الآخرين حتى وإن اختلفوا عنا عقائديا ودينيا واجتماعيا وجغرافيا، واختلفوا أيضا في الجنس والعمر والانتماء السياسي.. كما تؤكد غرفة العناية المركزة أن الإحساس بالعجز هو أشد ما يؤلم الإنسان، والمجتمعات أيضا، خاصة في مواجهة الأزمات والمشكلات المزمنة، ولعل ذلك هو السبب الأهم والمباشر لانفجار الاحتجاجات في هذه المجتمعات.. لذلك فإن القيادة الحصيفة والذكية هي التي تحمى شعوبها من الإحساس بهذا العجز، خاصة إذا اقترن بإحساس آخر وهو فقدان الأمل!
باختصار أن غرفة الرعاية المركزة قد تكون بداية جديدة للمريض أو نهاية له.. ففى الوقت الذي يخرج منها كثيرون لتجاوزهم مرحلة الخطر على حياتهم، يخرج منها البعض إلى القبر بعد أن حانت ساعة أجلهم.. وهنا تكمن شطارة قيادات الدول في الخروج بها من المراحل الحرجة في حياة بلادهم إلى بر الأمان.. وهذه الشطارة سوف تتوفر إذا توفر مع الاخلاص للشعوب القناعة بأنه مثلما لا يوجد من يحتكر الحقيقة وحده، لا يوجد أيضا من يحتكر وحده الحلول الناجحة والصحيحة لحل المشكلات والأزمات.. وأن التنوع في الرؤى والحلول ضرورى ومفيد، ولا يمكن الاستغناء عنه في مجتمعات الحكم الرشيد.