نزاع بلا حسم.. إيران (بعبع إستراتيجي) صنعته بريطانيا ووفرت حمايته
كشفت وثائق سرية بريطانية اليوم، عن حماية المملكة المتحدة لجمهورية إيران وثورتها الإسلامية لدرجة دفعت لندن إلى عرقلة خطة أمريكية لضرب طهران بهدف منع انتصارها على العراق في الحرب بينها.
وأوضحت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في سياق عرضها للوثائق، أنها أهمية إيران الإستراتيجية لبريطانيا وعموم الغرب تجلت بوضوح في هذه الوثائق.
تباين رؤى
وتشير الوثائق التي نشرتها "بي بي سي" إلى أن التباين في الرؤيتين البريطانية والأمريكية تجاه إيران يعود إلى أيام حرب الأعوام الثمانية، من 1980 حتى 1988، بين إيران والعراق.
انتهت الحرب بعد موافقة آية الله الخميني، زعيم الثورة الإسلامية في إيران على قرار دولي بوقف إطلاق النار والتفاوض قائلا مقولته الشهيرة في 18 يوليوعام 1988 "الموت والشهادة أهون علىَّ من هذا، كم أنا حزين، لأنني تجرعت كأسًا من السم حين وافقت على القرار".
قوة دفع
تكشف الوثائق أيضا عن أن الولايات المتحدة كان لديها هاجس هو انتصار إيران في الحرب. فعملت جاهدة، عسكريا واقتصاديا، للحيلولة دون ذلك.
ويضيف تقرير هيئة الإذاعة البريطانية إلى أنه قبل أن تنتهي الحرب بعامين لاحت للأمريكيين مؤشرات على إمكانية أن يتحول الهاجس إلى حقيقة.
وكان أهم المؤشرات هو استيلاء إيران على شبه جزيرة الفاو العراقية في شهر مارس عام 1986.
وحسب الوثائق، فإن الأمريكيين رأوا أن هذا التطور العسكري أعطى إيران "قوة دفع نفسية" جعلتها "لا تبدي إشارة إلى أنها مستعدة لعدم المضي في الحرب".
واستمر هذا الوضع حتى استعاد الجيش العراقي الجزيرة في شهر أبريل 1988، أي قبل شهور قليلة من وقف الحرب بالقرار الأممي.
التدخل العسكري
وفي 19 و20 من شهر مارس عام 1986، جرت في واشنطن مباحثات أمريكية بريطانية بشأن الحرب، وبدا خلالها واضحا للبريطانيين أن الأمريكيين يخططون للتدخل بطرق، منها القوة العسكرية، لمنع انتصار إيران.
وكان موقف وزارة الدفاع البريطانية واضحا وهو، حسب الوثائق، رفض الاتجاه الأمريكي والإصرار على عدم المشاركة مهما أصر الأمريكيون على المضي فيه.
زيارة مفيدة
وفي تقرير عن المباحثات، قالت الوزارة: "كانت الزيارة مفيدة للغاية، خدمت هدفنا في تأكيد مساندتنا الأساسية لسياسة الأمريكيين في الخليج، ولكن أيضا في التعبير عن قلقنا من المخاطر التي ينطوي عليها العمل العسكري المتسرع أو المبالغ فيه".
وأوصت بأنه "لا يجب علينا خاصة أن نُجر إلى دعم عمل عسكري لا يمكننا التحكم فيه، أو أنه في حالة اندلاع أزمة، ربما نضطر لأن نُخيِّب توقعات الولايات المتحدة بشأن المساندة". وأيدت الخارجية البريطانية هذه التوصية.
بعد ذلك بشهر زار وفد من إدارة الشرق الأوسط بالخارجية البريطانية واشنطن، وكتب جي إتش بويس، رئيس الإدارة عن هذه الزيارة قائلا إن الأمريكيين "طلبوا دراسة عسكرية مشتركة لسير الصراع في الخليج مستقبلا... وتنسيق المساعدة الأمنية لدول الخليج".
وخلص البريطانيون من المباحثات إلى أن الأمريكيين "يتجهون بشكل متزايد للاعتقاد بأن إيران سوف تنتصر في الحرب كلما طالت، لذلك فإن السياسة الأمريكية وُجهت نحو بذل كل ما هو ممكن لدعم العراق على الأقل لحين ظهور مؤشرات على لين في عناد إيران".
تقرير بويس
وقال بويس إن وضع العراق، سياسيا وعسكريا، كان، من وجهة نظر الأمريكيين، سبب المعضلة.
ويضيف أن الأمريكيين: "اعترفوا بأنه في ضوء أوجه القصور في القيادة السياسية والعسكرية بالعراق، فالذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة فعليا قليل. فالعراق، على سبيل المثال، لديه كل الأسلحة التي يحتاجها. ولذا فإنهم –الأمريكيون- يركزون اهتمامهم على محاولة كبح إيران".
ويقول تقرير بويس إن "أملهم الرئيسي هو وقف تدفق الأسلحة إلى إيران. ورغم أنهم (الأمريكيين) حققوا بعض النجاح في تبطئ تدفق الأسلحة من السوق السوداء، فإن الأسلحة تتدفق من أوروبا الشرقية وكوريا الشمالية وسوريا وليبيا والصين بمعدل متزايد إلى إيران".
وتكشف الوثيقة عن أن الأمريكيين فكروا في ضربات عسكرية تشل إيران.
ويقول بويس "على الجانب العسكري، اعتقد الأمريكيون أن هجوما شاملا وبارعا من الجو على المنشآت الحيوية الاقتصادية في إيران قد يغير السلوك الإيراني. غير أن افتقاد العراق إلى العزم والتصميم العسكري، والعناد السياسي الإيراني لم يجعلا هذا خيارا مبشرا للغاية".
وتحدث بويس عن الفارق في التفكير بين البريطانيين والأمريكيين قائلا إن الأمريكيين "لم يتمكنوا من أن يجدوا سيناريو معقولا ذا مصداقية يُمكّن من ضمان نجاة العراق مستندا على ثقل مستقل قادر على مواجهة قوة إيران".
وأمام هذا المأزق البالغ الصعوبة توقع بويس أن تتعرض بلاده لضغوط أمريكية متزايدة للتخلي عن "نهجها المتوازن" في إطار الجهد الأمريكي لتحجيم إيران والحد من قدرتها على الانتصار على العراق.
وبعد شهر تقريبا، زار وفد عسكري أمريكي رفيع المستوى بقيادة ضابط برتبة جنرال، يرافقه أربعة من مساعديه الخارجية البريطانية.
وكان الهدف هو أن يعرض الوفد نتائج جولة طويلة قام بها ولمدة 28 يوما للمنطقة شملت قطر وعمان والإمارات والبحرين والسعودية والكويت والأردن.
ويكشف تقرير للخارجية البريطانية، بشأن اللقاء، عن "إحباط لدى الأمريكيين من الافتقاد إلى استجابة دول الخليج لاستعداد أمريكا للتعاون في فعل المزيد من أجل الدفاع عنهم" في ضوء التوابع المحتملة لانتصار إيران.
مضيق هرمز
ويقول التقرير "بدا الأمريكيون محبطين من اتصالاتهم مع الدول الخليجية. فموقفهم لا يزال هو الإبقاء على مضيق هرمز مفتوحا".
غير أنه أشار إلى أن الأمريكيين "أبلغوا دول مجلس التعاون الخليجي بأنهم لو أرادوا المزيد، فسيتوجب عليهم أن يؤدوا دورهم بتقديم قواعد في الموانئ، والموافقة على مناورات مشتركة وتخطيط مشترك للطوارئ"، لتدخل عسكري أمريكي محتمل.
لكن الوثيقة البريطانية تنقل عن الأمريكيين قولهم إنه "رغم أنه لخليجيين أكثر قلقا بشكل واضح الآن من ذي قبل، فإن دول مجلس التعاون الخليجي لم تستجب".
وتحدث تقرير لاحق لإدارة الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية، عن أن تقدير الأمريكيين للموقف العسكري بين إيران والعراق ظل متشائما للغاية.
مسار الحرب
ووفق وثيقة بعنوان "إيران – العراق التخطيط للطوارئ بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة"، أكدت الخارجية البريطانية مجددا ضرورة النأي عن أي خطة عسكرية أمريكية للتدخل في مسار الحرب.
وتقول الوثيقة إنه "بينما لدينا مصالح قوية في الحفاظ على قربنا من الأمريكيين - بشأن هذه القضية (الحرب بين العراق وإيران)، بهدف مواكبة التفكير الأمريكي وكذلك محاولة تليين نهجهم- فإن سياسة الحكومة البريطانية هي تفادي إجراء نقاش جاد أكثر من اللازم مع الجيش الأمريكي بشأن خطط لعمليات في منطقة الخليج".
وتلخص الوثيقة الهدف النهائي لهذا الموقف من أي تدخل أمريكي محتمل يستهدف منع انتصار إيران، قائلة "خدمة مصالحنا في المنطقة ستكون أفضل على الأرجح لو لم تنظر إلينا دول الإقليم على أننا مشاركون بدرجة وثيقة أكثر من اللازم في التخطيط الأمريكي".
وقالت وزارة الدفاع، في تقرير عن جولة مباحثات لاحقة في واشنطن، إن تأييد بريطانيا لواشنطن يضر بمصالحها. وقالت: "سنقدم على الأرجح أفضل خدمة لمصالحنا في المنطقة لو لم ترنا دول المنطقة من هذه الزاوية (زاوية مشاركة أمريكا في عمل عسكري)".
وفي تقرير كُتب في يوليو 1986، قالت إدارة الشرق الأوسط: "بينما تتمتع إيران بأهمية وإمكانات أعظم على المدى البعيد، فإن السياسة الأفضل تتمثل في نهج هادئ لا يجذب الأضواء ومحايد تجاه إيران والعراق. فهذا يسمح لنا بالحصول على أقصى ميزة تجارية في المنطقة كلها".
وبعد جلسة مباحثات جديدة لاحقة بين وفدين أمريكي وبريطاني في لندن بشأن "تقييمي المملكة المتحدة والولايات المتحدة" للصراع، اتفق الجانبان على أن "التصور هو أن إيران دولة كبيرة ومهمة، وفي مكانة إستراتيجية سيكون من المهم على المدى البعيد أن يكون للغرب علاقات جيدة معها".
غير أن التقييم الأمريكي، حسب تقرير بريطاني عن المباحثات، كان هو أن إيران "ربما تعتقد بأنه بدفعة واحدة أخرى قد ينهار نظام البعث تحت وطـأة قوتها كما انهار نظام الشاه"، في إشارة إلى إسقاط الثورة الإسلامية نظام الحكم في إيران.
وفي هذا السياق تحدث الأمريكيون عن أن إيران "تعد الآن لهجوم كبير نهائي.. سيكون ضربة كبرى للعراق".
نزاع دموي
وفهم البريطانيون من الأمريكيين أنهم يعتقدون بأنه "لهذا السبب أو غيره، هناك أكثر من مجرد فرصة لاحتمال انهيار العراق، ما يجعل الإيرانيين منتصرين. وأي توقعات لما قد يحدث عندئذ تصبح كئيبة للغاية".
لكن التقييم البريطاني كان هو "استمرار النزاع الدموي دون حسم".
وخلال المباحثات، ادعى الأمريكيون "أنهم لا يرون أي تعارض بين سياستهم القصيرة المدى الرامية إلى بدء ممارسة ضغوط على إيران لتجنب السيناريو السالف الذكر، وبين اعتقادهم المفترض بأنه ليس من مصلحة الغرب، على المدى البعيد، ألا تكون له علاقات طبيعية مع إيران".
غير أن البريطانيين أصروا، خلال المباحثات، على "توضيح أن المملكة المتحدة مستمرة في اتخاذ موقف محايد في النزاع، وتؤمن بضرورة أن يكون لها علاقات طبيعية قدر الإمكان مع كل جانب."
لم تكن القوة العسكرية هي الوسيلة الأمريكية الوحيدة المقترحة لقطع الطريق على أي انتصار محتمل لإيران وانهيار العراق.
تكلفة الحرب
تقول الوثائق إن الإستراتيجية الأمريكية سعت إلى "زيادة التكلفة الاقتصادية التي يتكبدها الإيرانيون من شن هذه الحرب".
ويقول وزير الخارجية البريطاني جيفري هاو في تقرير آخر، إنه "بعد مساعيهم المتعثرة لوقف تدفق الأسلحة على إيران، تركز الولايات المتحدة الآن (1986) على الحد من توسيع نطاق التسهيلات الائتمانية لإيران"، والتي تساعد الإيرانيين في الاستيراد من الخارج.
وأجرى الأمريكيون، كما تكشف وثيقة هاو، اتصالات مع كل الحكومات الأوروبية الغربية تقريبا واليابان وسنغافورة وتركيا بهذا الشأن.
ولما أُثير موضوع الضغط الاقتصادي على إيران، أوصت الخارجية البريطانية بأن تحاجج لندن بالقول إن "الضغط على الإيرانيين لوضعهم في موقف صعب اقتصاديا لن يدفعهم إلى التفاوض وسوف يضر بموقف الغرب البعيد المدى".
وتقول وثيقة هاو "تم إبلاغ الأمريكيين بأن "سياستنا هي الحياد"، ومبررها هو أن "وجود إيران في المنطقة وسلوكياتها السياسية حقائق حياة"، يعني أنه واقع يجب التعامل معه.
وبالنسبة للسعودية، رأى البريطانيون أنها "مهمومة بهيبتها، لكن الآخرين يرون أن هناك حاجة للتوصل إلى تسوية مؤقتة مع إيران".
وأشار هاو إلى مبررات أخرى للموقف البريطاني قائلا إن السياسة الأمريكية "تقوي عزيمة الإيرانيين على شد الأحزمة والاستمرار (في الحرب)". وأضاف "إيران مرنة أي قادرة على النهوض بعد أي تعثر سياسيا واقتصاديا ومعتادة على التقشف".