رئيس التحرير
عصام كامل

الإمامُ الغاضبُ.. وغربانُ التجديد


في مقاله المنشور اليومَ بجريدة "صوت الأزهر"، عن التحديات التي تواجهُ "الخطاب الدينى".. بدتْ نبرة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور "أحمد الطيب"، كما العهد به دائمًا، هادئة وقورة رصينة، تليقُ به ويليقُ بها، وإنْ لم تخلُ من غضبٍ وحُزنٍ دفينٍ يُغلفُ كلَّ حرفٍ من حروفِ المقال.


على أية حال.. دعونا نتفقْ أولًا على أنه لا كرامة للكُرماء في أوطان العرب، ومن ثمَّ فإنَّ الوتيرة المُتسارعة للتطاول على مقام الإمام الأكبر لنْ تتوقفَ اليومَ أو غدًا، حتى يتبِّعَ شيخُ الأزهر مِلَّتَهم، أو يقضىَ اللهُ أمرًا كان مفعولًا، إما باستقالةٍ إجباريةٍ، وهذا هو الاحتمالُ الأقربُ، وسطَ تكهناتٍ بتجهيز المفتى الحالى الدكتور "شوقى علام"، وهو ليس عضوًا بهيئة كبار العلماء، لتنصيبه شيخًا للأزهر الشريف.

أو أنْ تعودَ الأمورُ إلى مسارها الصحيح بـ"قرارٍ فوقىِّ"، وتتوقفَ "وصلاتُ الردح الصحفى والفضائى والإلكترونى" بحقِّ عالمٍ جليلٍ مُستنيرٍ، يشهد له القاصى والدانى، ويستقبله الرؤساءُ المسلمون وغيرُ المسلمين استقبالَ الفاتحين، ويزورونه في مكتبه بمشيخةِ الأزهر الشريف، حُبًا وتقديرًا وتعظيمًا وإجلالًا.. وهذا احتمالٌ أبعدُ عن الواقع من بُعد السماء عن الأرض.

بالعودة إلى المقال الذي استطرد صاحبُه في الحديث عن الألغام التي تواجهُ "تجديد الخطاب الدينى".. يمكنُ التوقفُ عند نقاط مُحددة.

الدكتور "أحمد الطيب" تحدث عنْ "مَنْ يبعثون المعاركَ من بطون الكتبِ للتهجُّم على التراث، والذين يُصدِّرون للناس أشباحًا لا أثرَ لها في الواقع، وتلك إشكاليةٌ أساسيةٌ، لا جدالَ في ذلك، حيث يتصدى للحديث عن "تجديد الخطاب الدينى"، شرذمة قليلون لم يتحققوا في حياتهم العملية بالشكل الكافى، فقرروا أن يصنعوا صنيعَ مَنْ بالَ في "بئر زمزم"، ليعرفه الناسُ ويتناقلوا اسمَه.

هؤلاء راحوا يتناوبون، بجهالة مُفرطة، على الطعن في كلِّ ما ينتمى للإسلام فقط. ومن المؤسفِ.. أن يتمَّ التوجيهُ بتمكين هذه الغربان الناعقةِ من الظهور المُنتظم صحفيًا وتليفزيونيًا، كلَّ صباح ومساء، للنيلِ من الدينِ الخاتم، وكأنهم يُبشِّرون بـ"دين جديد". أحدُ هؤلاء، أخذته العِزَّة بالإثم، حتى إنه انتقدَ، قبل أيام، في مقاله اليومى، استمرارَ العمل بأحكام القرآن الكريم حتى الآن، زاعمًا أنَّ تلك الأحكامَ، مثلَ: تحريم شرب الخمر أو الزنا أو الشذوذ، كانتْ تليقُ بزمن النبوة فقط، أما في زمننا المُعاصر فلا ضرورةَ لاستمرارها.

وهذا رفيقٌ آخرُ في رحلة الحرب على الإسلام والنضال ضدَّه، يغمزُ ويلمزُ في فريضة الصوم، ويقولُ: إنه يراها بلا قيمةٍ أو جدوى أو هدفٍ، ولا يفهمُ سببًا لفرضها من الأساس. ومن قبلُ.. كرر الكلامَ ذاته عن الصلاة. وبين هذا وذاك.. أعاد نفسَ الهُراء بحقِّ فريضةِ الحجِّ، ووصمها بـ "الوثنية". هم يريدون، ابتداءً، إسقاطَ أركان الإسلام وإنكارها تمامًا، واحدًا تلوَ الآخر وانتهاءً يبغون نسخ أحكام القرآن الكريم ونفيها عن الواقع بلا عودة.. فهل هذا هو التجديدُ المطلوبُ فعلًا؟

في هذا الإطار.. ضربَ "الطيبُ" مثلًا بمن يريدون الطعنَ في الإسلام أو في الأزهر الشريف من خلال إثارة الحديث عن "حدِّ الردة"، مُتسائلًا: هل طالب "الأزهر" يؤمن بتطبيق هذا الحدِّ على من يجاهرون بإلحادهم عبر شاشات التليفزيون؟! الإجابة بطبيعة الحال: لا.

الإمامُ الأكبرُ أعربَ، خلالَ مقاله، عن استيائه البالغ من تخصيص برامجَ تليفزيونيةٍ تتصدَّى بجهل مُقدميها وضيوفها للحديث عن أمرٍ لا يعرفون عنه شيئًا، مؤكدًا أن "هذه البرامج تقتلُ أوقاتَ المصريين، وتعبثُ بوحدة صفِّهم وبتركيزهم وانتباههم لما يُدبَّرُ لبلدهم، وتتعاملُ مع «أشباح» لا وجودَ لها على أرض الواقع في بلاد المسلمين.

الإمامُ الأكبرُ أبدى اندهاشه من زعم القائمين على تلك البرامج المُثيرة للفتنة بأنهم "إنما جاءوا لتجديد الخطاب الدينى، وأنَّ العناية الإلهية بعثتهم ليجددوا لنا أمرَ ديننا"، وهؤلاء أشبه برءوس المنافقين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث نزلَ فيهم قرآنٌ يُتلى حتى يقومَ الناسُ لرب العالمين: "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ".

ولو كانت النوايا صادقة، والضمائرُ صافية، والقلوبُ نقيَّة، لصدرتُ أوامرُ ممن يملكون إصدارها، بوقف هذه النوعية من البرامج العابثة والتافهة والساذجة فورًا، درءًا للفتن، ومنعًا للجدل، ولكن قد يحدثُ العكس تمامًا، فيتمُّ تكليفُ هؤلاءِ الطاعنينَ في الإسلام بالتناوب على تقديم برنامج "حديث الروح" مثلًا، وما شابه من برامجَ، ففى أزمنة "الرويبضة" يتراقص الصبيانُ والغربانُ على رءوس الكبار، ويتخذونهم هُزوًا.

هذا قليلٌ من كثيرٍ.. ومقالُ الإمام الأكبر يحتاجُ درسًا وتدقيقًا وتطبيقًا ممن يريدون إصلاحًا في الأرض بعدَ فسادها وإفسادها.. وللهِ الأمرُ من قبلُ ومنْ بعدُ.
الجريدة الرسمية