إحنا في زمن النسخ
أعدْ قراءة العنوان جيدًا، إنها "النسخ" بالنون، وليستْ "المسخ" بالميم، تلك التي كان يرددُها "عادل إمام" في فيلم "عمارة يعقوبيان".
"النسخ" الذي أقصده –هنا- هو عملية السطو المُنظَّم التي تتمُّ مع سبق الإصرار والترصُّد على الأعمال الأكاديمية والأدبية والإبداعية والصحفية، بمختلف أطيافها، والتكسُّب بها ماديًا ومعنويًا، على حساب أصحابها الحقيقيين، والتدرُّج من خلالها في المناصب الرفيعة بسرعة الصاروخ، والصعود إلى منصَّات التتويج واقتناص الجوائز والأوسمة، دونَ خجل أو حرج.
الظاهرة الأسوأ في الحياة المصرية، والتي تمضى بوتيرةٍ مُتسارعةٍ ولا يعترضُ طريقها أحدٌ، تشملُ: الأعمال المكتوبة، سواء كانت رسالة ماجستير أو دكتوراه أو كتابًا أو مقالًا أو نصًَّا سينمائيًا أو مسرحيًا أو شعريًا أو غنائيًا، فإياك أنْ تصدقَ ابتداءً أن أىَّ رسالة جامعية أو كتاب أو فيلم أو أغنية أو مقال من إنتاج من تحملُ اسمه أو اسمها، حتى يثبتَ العكس، فربما كان هذا العمل نتاجًا لعلاقة آثمة، قوامُها التزييف والغش والتدليس.
المؤسفُ في الأمر.. أن أبطالَ هذه السرقات ليسوا أشخاصًا مغمورين يبحثون عن شهرة أو مال، ولكنهم ينتمون قسرًا إلى فئة المشاهير والنجوم.. كُلٌّ في مجاله، وأحيانًا في غير مجاله، والوقائعُ كثيرة ومتكررة ومتنوعة ومُتعددة ومُخجلة.
الحديثُ عن الحلال والحرام، والضمير الغائب عند تناول هذه القضية لن يُغنى شيئًا ولن يصنعَ واقعًا جديدًا، لأنَّ من دأبوا على اقتراف هذه الجريمة، لا يشغلهم سوى شيء واحد، وهو بناءُ مجدٍ شخصىٍّ، ولو كان زائفًا، على حساب موهوبين مُجيدين، لم تُسعدْهم الأقدارُ بعدُ بالدخول في دائرة الأضواء والنجومية والعلاقات الشخصية، التي ترفعُ أقوامًا وتذلُّ آخرين!
الأسوأ مِن هؤلاء هم مَن يمدُّون لهم يدَ العون والمساعدة، ومن يتسترون عليهم، أو يدافعون عنهم عند فضحهم، وكأنَّ السرقة أصبحت حقًا مُستباحًا لمن استطاع إليها سبيلًا.
التشريعاتُ القانونية الباهتة والخجولة، لم تفلحْ في كبح جماح الباحثين عن الشهرة والمال، ولم تتمكنْ من تجفيف منابع تلك الشهوة المُحرمة، بل إنها تُبقى البابَ لهم دائمًا مواربًا للخروج الآمن، ما يُغرى لصوصَ العقل لاستكمال جرائمهم بدمٍ باردٍ وقلبٍ ميتٍ وضميرٍ مرفوع من الخدمة.
في العام 2013.. استقالتْ وزيرة التربية الألمانية "أنيت شوافان"، من منصبها بعدما جرَّدتها الجامعة التي تخرجتْ فيها من درجة "الدكتوراه"، التي كانت تحملها مُتهمةً إياها بالسرقة العلمية في واقعةٍ قديمةٍ جرتْ قبل 20 عامًا!! وفى مصر تم ترشيح أكاديمى معروف ورئيس سابق لنادٍ رياضى جماهيرى، لحقيبة وزارية مُهمة في التشكيلة الحكومية الأخيرة، فضلًا عن طرح اسمه دائمًا لرئاسة اتحاد لعبة شعبية بشكل متكرر، رغم ثبوت إدانته بالسطو على كتاب أحد زملائه بالكلية، وتغريمه ماليًا!!
وقبل شهرين.. أدانتْ محكمة مصرية شاعرين مشهورين وملء السمع والبصر، بالسطو على أعمال شاعر فن الواو "عبد الستار سليم"، فتمَّ التعتيمُ على الحُكم، ولم تهتم وسيلة إعلامية واحدة بإنصاف الأخير، وتمَّ التنبيهُ على الضحية بعدم الحديث لوسائل الإعلام، وكأنه هو الجانى وليس المجنى عليه!! والأدهى من ذلك.. أنه تمَت استضافة المُدانين الاثنين بالسرقة على نطاق واسع، في برامج تليفزيونية وإذاعية مُختلفة لـغسل سمعتهما.. ففى أزمنة الضلال يغدو اللصُّ شريفًا والشريفُ لصًَّا.
النظرة المُتفاوتة لهذه الجريمة في مصر من ناحيةٍ، والدول الأوروبية من ناحيةٍ ثانيةٍ، سببٌ رئيسىٌ ومؤثرٌ في تفاقُم هذه الظاهرة غير الأخلاقية والتعامُل معها بـ"استخفافٍ" يصل إلى حد "الاستهبال"، فما يعتبرونه جريمة مُخلة بالشرف، نتعاملُ معه في بلادنا باعتباره سلوكًا شريفًا رفيع المستوى، ونرفعُ صاحبه فوقَ الأعناق وكأنه قدوة حسنة ومثلٌ أعلى، ويبقى مرُشحًا لأرفع الأوسمة، وضيفًا مُقيمًا في الأستوديوهات.
صحفيون كبارٌ، من الذين يطاردونكم كلَّ صباح ومساء، يسطون على مقالاتٍ قديمة أو منشورة في صحفٍ ووسائط مغمورة، وينسبونها إلى أنفسهم زورًا، وبعضُهم حصل بالفعل على جوائز محلية أو عربية "سخيَّة جدًا" من خلال هذا السلوك الإجرامى الشائن، وبواباتٌ إلكترونية تنقلُ عن بعضها "كوبى بيست" على مدار الساعة، ومؤلفون يسرقون أفكار شباب يبحثون عن البداية الصحيحة، وكُتّابُ أغانٍ يكررون الجُرم ذاته، وأساتذة جامعات يجدون لذَّة في سرقة أبحاث مساعديهم أو تلاميذهم، في دائرة لا تتوقف من الإجرام واللصوصية غير المبررة.
التمكينُ لهذه السلوكيات المُريبة والتعامُل معها باعتبارها مسلكًا شرعيًا وطبيعيًا، يقتلُ النزاهة ويغتصبُ الشفافية، ويجعل من الاجتهاد والموهبة بضاعة رخيصة لا قيمة لها، ويُعلى من شأن جريمة الغش، ويعطى من يستحقُّ ما لا يستحقُّ، ويُضفى على المُجرمين شرعيةً ليسوا جديرين بها بكل تأكيد، ويسمحُ للصوص ومُسجلى السرقات بتقدُم الصفوف وتصدُّر المشهد.. أمَا أصحابُ الحقوق المسروقة من الموهوبين والمُبدعين الحقيقيين، فليس عليهم إلا الصمتُ قهرًا أو الموتُ كمدًا، أو الإقامة جبرًا في مستشفيات "المجاذيب".