رئيس التحرير
عصام كامل

فليسقط الكيك واللبن!


عشرون سنة تقريباً تفصلنى عن هذه الواقعة اللطيفة .. حيث أفقت من قيلولتى على هدوء غير معتاد .. وعلى همسات متقطعة ..وصدى ضحكات ترن برقة على استحياء .. خرجت إلى البهو الخالى من أطفالى الثلاثة - على غير العادة- وكان المطبخ فى المواجهة لأنه على الطريقة الأمريكية ( مفتوح) .


وباغتنى للحظة المشهد..فهو يدعو على الدهشة والتأمل ..والضحك .. كل حوائط المطبخ بلا استثناء تغرق تحت أوراق صغيرة وملونة ومكتوب عليها عبارات متنوعة :

فليسقط الكيك واللبن .. نحن نريد شوكولاتة.. يامامى إحنا زهقنا !

استندت بذراعى على "الأفريز" الفاصل بين المطبخ والبيت وأنعمت النظر فى ( المنشورات ) المكتوبة ضدى وأنا لاأتمالك نفسى من الضحك ..فتعثرت عيناى فى توقيعات الأطفال : رامى .. روشنا ... وصورة لطفلة مرسومة بطريقة كوميدية ومكتوب تحتها روجين لأن الأخيرة كانت فى عامها الأول فوقعا نيابة عنها !

لحظتها بدأت الانتباه إلى عدم استعدادى وقتها للتكيف مع رغبات أولادى ..أو حتى مناقشة هذه الرغبات التى تتعارض مع صحتهم . وتأكدت أن الوقت قد حان – وإن كان مبكراً – لأن تكون بيننا نقاشات وتوضيحات لأى قرار أتخذه حتى وإن كان (فرض الكيك واللبن ) كبديل للحلويات العادية .

هم الآن يدافعون عن ذواتهم ورغباتهم أكثر مما يدافعون عن حلوياتهم المنشودة .. وأصبحت لهم طريقتهم المتفردة فى التمرد .. تمرد ؟! نعم فهؤلاء هم جيل التمرد الذى نشهده حالياً .

ولمن لا يستوعب الحركة العميقة والأحداث والوقائع وتداعياتها التى لاتزال قيد الفعل والتشكل .. لا سيما أنها تصطبغ بطابع الحرارة والتوتر الشديدين؛ لمن ينكر على هؤلاء الشباب التعبير عن ذاته التى يحمل فوق لسانه لهجة ناصعة للدفاع عنها .. أن يتأمل معى وقفة (الكيك واللبن) .. لضرورة إعادة النظر فى كيفية تعاطينا مع حماس وأسلوب تعبير الشباب .

أولا: الطريقة الحضارية والمبتكرة – آنذاك - والتى تعامل بها أطفالى للتعبير عن رغباتهم .

ثانياً : وهى نقطة لافتة .. العبارات كلها مكتوبة بالعربية – كنا وقتها فى إيران – حتى لايتثنى لأحد أن يقرأ الاعتراضات غيرى " عدم السماح بالتدخل الخارجى " .

ثالثاً: القصاصات كلها تم لصقها بعناية على حوائط المطبخ فقط – لأنها سيراميك- وسوف تتم إزالتها بسهولة " الحفاظ على الملكية العامة " .

رابعاً : الآلية التى تم بها التوقيع عوضاً عن الرضيعة ..بغض النظر عن كونها آثرة وجميلة فهى تشير إلى " تحرى المصداقية" .

ورغم أننى لم أتصور أنه سيأتى اليوم الذى ستعلق فيه لافتات فى بيتى معارضة لحكمى .. إلا أننى لن أدعى بطولة وسأعترف أننى وقتها رضخت لطلبات أولادى بعد جلسة مملوءة بالضحك غامرة بالسعادة لكنها لم تفتقد بعض الحنكة لتمرير وتثبيت ( اللبن) .

وبين تمرد الأطفال وتمرد الأجيال حالياً لابد لنا من معرفة أن التمرد يأتى نتيجة لاحتدام الوعى بالظلم والاضطهاد واللامساواة داخل المجتمع ..وهو يؤدى إلى الانتفاضة ضد النظام القائم.. لكن فاعلية التمرد لابد أن تكتمل بالتنظيم وبمشروع سياسى محدد الملامح ..

وحذارى من النظرة الدونية للتمرد – والتى تشيع الآن على تصريحات البعض- لأن النتائج سوف تكون غير متوقعة، فقوة الجذب التى يمارسها التمرد تنشأ عن كونه نتيجة انشطار وتمزق شديدين يعانى منهما الشباب ..والتجربة أصبحت الآن مشتركة ومعممة على كل أعمار وأطياف الشعب ..

أى الشباب وحد الناس وجمعهم على مطالبه.. فصارت هناك حالة غليان شعبى غابت عنه آليات الممارسة السياسية التقليدية .. حالة المرجع فيها والوسيلة هو (التواصل الإلكترونى) .

وهى حتى الآن قد نجحت .. لأن الشعب بالكامل الآن يشعر بحالة يُتْم شديدة .. فكل مؤسساته من داخلية وجيش وأحزاب معارضة إما تخلت عنه، وإما لها مواءماتها .. وحينما يشعر الشعب/الطفل أنه بلا والدين وحيد ويتيم .. لابد وأن يمسك بالدفة ويديرها هو بطريقته وفى اتجاهاته .

الجريدة الرسمية