محنة الحديث النبوي (6)
فضلًا عن الرواية بالمعنى، وما جناه "القُصَّاص" (رواة القصص)، و"السُؤَال" (المتسولون) من افتراءات، وروايات مخترعة، وما ذكرناه في مقالنا السابق من أسبابِ الجرأةِ على الكذبِ على سيدِنا رسولِ اللهِ، صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم، فقد ابتُلي الإسلامُ بثلاثةٍ من أشدِّ "المتأسلمين" عداوةً للحنيفيةِ ورسولِها. أولئكَ هم اليهودُ الثلاثةُ، الذين اجتهدوا في الدسِّ على الإسلامِ والقرآنِ، والنبيِّ، صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، متسترين برداءِ التدينِ والورعِ والتقوى. وللأسفِ البالغِ فقد انخدعَ بمظهرهم غالبيةُ المسلمين، وعلماءُ الأمة، وأمراؤها، واتخذوهم قدوةً في الفقهِ والتفسيرِ والحديثِ!
الثلاثةُ المعنيون هم: كَعْبُ الأحبارِ، ووَهْبُ بنُ منبه، وعبد الله بن سلام.
وأولُ هؤلاء هو كعب الأحبار.. وكُنيتُه "أبو إسحق" من كبارِ أحبارِ اليهودِ، وأسلم في عهد عمر بن الخطاب، وسكنَ المدينةَ في خلافته، وكان معه في فتح القدس، ثم تحول إلى الشام في زمن سيدنا عثمان بن عفان، فاستصْفَاه معاويةُ وجعله من مستشاريه لكثرة علمه، كما كانوا يعتقدون، وهو الذي أمره أن يَقُصَّ في بلاد الشام. وبذلك صار أقدم الإخباريين في موضوع الأحاديث اليهودية والإسلامية.
ومن خلاله، ورفيقيه، تسربت إلى الحديث طائفةٌ من أقاصيص التلمود "الإسرائيليات"، وما لبثت هذه الرواياتُ أن أصبحت جزءًا من الأخبار الدينية والتاريخية.
وقال عنه الذهبي، في "تذكرة الحفاظ"، إنه قدِمَ من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر، فأخذَ عنه الصحابةُ وغيرُهم، وروَى عنه جماعةٌ من التابعين مرسلًا. ماتَ بحِمْص سنة 32 أو 33 أو 38، بعدما ملأ الشامَ وغيرَها من البلاد الإسلاميةِ برواياته وقصصه المستمدةِ من الأخبارِ اليهودية. كما فعلَ تميمُ الداريُّ في الأخبار النصرانية..
العجيبَ أن المصريين جعلوا له قبرًا أقاموا عليه قبةً عاليةً يزورها الناسُ ويتبركون بها، وذلك بمسجدٍ كبيرٍ في شارعِ الناصرية بالقاهرة!.. اخترعَ هذا الكاهنُ لإسلامه سببًا عجيبًا ليتسللَ به إلى عقولِ المسلمين وقلوبِهم. فقد أخرجَ ابنُ سعد، بسندٍ صحيحٍ عن سعيد بن المسيب، قالَ: قالَ العباسُ لكعب: ما مَنَعَكَ أن تسلم في عهد النبي أو أبي بكر؟ فقال: إنَّ أبي كتبَ لي كتابًا من التوراة، فقال أَعْجِلْ به، وخَتَمَ على سائرِ كتبه، وأخَذَ عليَّ بحقِ الوالدِ على الولدِ ألَّا أفضَّ الختْمَ عنها. فلما رأيتُ ظهورَ الإسلامِ قلتُ لعلَّ أبي غَيَّبَ عني علمًا، ففتحتُها فإذا فيها صفةُ محمد وأمته، فجئتُ الآن مسلمًا!
وقال ابنُ حجر في "الإصابة": إنه روى عن النبيِّ مرسلًا، وروَى عنْه في الصحابةِ ابنُ عمر وأبو هريرة، وابنُ عباس وابنُ الزبير، ومعاويةُ، وغيرهم.
وثانيهم، هو: وَهْبُ بنُ مُنبِّه.. وذكرَ المؤرخون أنه فارسيُّ الأصل، جاء جدُّه إلى اليمن في جملةٍ مَنْ بعثَهم كِسرى لنجدةِ اليمنِ على الحبشةِ، فأقاموا هناك وتناسلوا، وصاروا يعرفون بين العربِ بـ "الأبناء"، أي أبناء الفرس، ومنهم طاوُس بن كيسان التابعي الشهير.
وكان آباء وهب على دين الفرس (المجوسية أو الزردشتية)، فلما أقاموا بين اليهود في اليمن، أخذوا عنهم آدابَ اليهود وتقاليدَهم، فتعلموا شيئًا من النصرانية، وكان يَعرفُ اليونانيةَ وعنده من علم أهل الكتاب شيءٌ كثيرٌ.
أدركَ عددًا من الصحابة، وروى عنهم، وروى عنه كثيرٌ من الصحابة، منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وغيرهم، وكان للعرب ثقةٌ بهم.. وقال عنه الذهبيُّ في "تذكرة الحفاظ": إنه عالمُ أهلِ اليمن، وُلِدَ سنة 34 هـ، وتُوُفي بصنعاء سنة 110 هـ. أو بعد ذلك بسنة أو أكثر، وقيل إنه توفي سنة 116 هـ.
وثالثُ الثلاثةِ عبدُ الله بنُ سلام، وهو أبو الحارثِ الإسرائيليُّ، أسلَمَ بعد أن قَدِمَ النبيُّ، صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، المدينةَ، وهو مِنْ أحبار اليهود، حدَّثَ عنه أبو هريرة، وأنسُ بن مالك، وجماعةٌ، وقالَ فيه "وهبُ بنُ منبِّه": كان أعلمَ أهلِ زمانِه، وكعبُ أعلمُ أهلِ زمانِه، وماتَ سنةَ 40 هـ.
وقد اتبع هؤلاءُ الأحبارُ، بدهائهم العجيبِ، طرقًا غريبةً، لكي يستحوذوا بها على عقولِ المسلمين، ويكتسبوا ثقتَهم، ويكونوا موضع احترامِهم.. أخرجَ التِرمذيُّ عن عبد الله بن سلام، أنه مكتوبٌ في التوراةِ، في السطرِ الأول: محمدٌ رسولُ الله عبدُه المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة. وأخرجَ كذلك: مكتوبٌ في التوراةِ صفةَ النبيِّ، وعيسى بن مريم يُدفن معه.
وهذا الذي أخرجه الترمذي عن ابن سلام، أحكمه كعب؛ فقد روى الدارميُّ عنه، في صفىة النبي، في التوراة، قال: في السطر الأول محمدٌ رسولُ الله عبدُه المختارُ، مولدُه مكةُ، ومهاجره طيبة، وملكهُ بالشام.. وتخصيصُ الملكِ بالشامِ في قول كعبٍ إنما استهدف غرضًا سياسيًّا خطيرًا، وهو دعمُ بني أمية، والدعايةُ لمعاوية!
وامتدت تلك الخرافاتُ إلى أحد تلاميذ كعب، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص.
لما قدم كعب إلى المدينة في عهد عمر، رضي الله عنه، وأظهرَ إسلامَه، أخذ يعملُ بدهاءٍ ومكرٍ لِما أسلمَ من أجله، من إفسادِ الدينِ وافتراء الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان عمرُ في أول الأمر يستمع إليه، على اعتبار أنه أسلم وصارَ صادق الإيمان، فتوسَّعَ في الرواية الكاذبة، كيفما شاء. قال ابن كثير: لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر، رضي الله عنه، فربما استمع له عمر، فترَخَّصَ الناسُ في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده من غثٍّ وسمين.
ولم يلبثْ عمر أن فَطِنَ لكيده واكتشف سوء نيته، فنهاه عن الحديث وهدده بنفيه إلى أرض القردة. وظل يترقبه بحكمته.. ومع ذلك فقد شارك كعب في مؤامرة اغتيال أمير المؤمنين، التي دبرها الهرمزان، ملك الخوزستان، الذي جاءوا به أسيرا إلى المدينة، ونفذها أبو لؤلؤة المجوسي!
والدليلُ على اتهامه بالاشتراك في المؤامرة، ما ذكره المسور بن مخرمة، أن عمر لما انصرف إلى منزله بعد أن تَوَعَّدَهُ أبو لؤلؤة، جاء كعب الأحبار فقال: يا أميرَ المؤمنين اعهدْ، فإنك ميتٌ في ثلاثِ ليالٍ.. قال عمر: ما يدريك؟ قال: أجدُه في كتاب التوراة، قال: أتجدُ عمر بن الخطاب في التوراة؟ قالَ: اللَّهُمَّ لا، ولكنْ أجدُ حلْيَتَكَ وصِفَتَك، وأنك قد فَنِيَ أجلُكَ.
فلما كان الغد جاءَه كعب فقال: بقي يومان، فلما كان الغد جاءَه كعبٌ، فقالَ: مَضَى يومان وبقي يومٌ، وهي لك إلى صبيحتها، فلما أصبحَ عمرُ خَرَجَ إلى الصلاةِ، ودخل أبو لؤلؤة في الناسِ وبيدِه خنجرٌ له رأسانِ نصابُه في وَسَطِهِ فضربَ عمر ستَّ ضربات!
وفي روايةِ أبي إسحقَ: وأَتَى كعبٌ عمرَ فقالَ: ألم َأقُلْ لك إنك لا تَمُوتَ إلَّا شَهِيدًا"؟!